الانتماء حاجة نفسية طبيعية لدى الفرد والمجتمعات، فالانتماء لا يعترف بالزمان ولا بالمكان، وهو مفهوم شامل لأطياف الدين والوطن والجماعات البشرية، وأحياناً يسير المرء يخفيه بين جوانحه ولا يبديه إلا في أوقات بعينها.
يمكن القول: إن الانتماء هو دمج الذات الفردية في ذات أوسع منها ليصبح الفرد بهذا الدمج جزءًا من أسرة أو جماعة أو أمة، ولحظة ميلاد الإنسان الذي ينشأ عادة بين دوائر انتماءات مترابطة متحاضنة يتطور وعيه خلالها.
وحسب المفهوم السابق، يمكن أن نلحظ انتماء النسب ومنه جاءت الأسرة، وظهرت القبيلة والعشيرة وأنساب العائلات الكبيرة والصغيرة، وهناك انتماء للمهن والحرف والصناعات، وانتماء لغوي لأهل البلدان، وانتماء داخله للهجات بعينها في كل قبيلة، وانتماء لقوميات وأعراق منها العربية والأفريقية والأوروبية، وانتماء لثقافات بعينها داخل تلك الأعراق، ويبدو الانتماء الديني كأخص ما يكون بين دوائر الانتماء التي تتضمن انتماءات لمذاهب وطرق.
في عام 2010م، أجاب المستشار الراحل طارق البشري على أفكار الانتماء العاصفة بعقول الشباب، في محاضرة بعنوان «مفهوم الانتماء ودوائره المتحاضنة»، ونشرتها سلسلة الوعي الحضاري (5)، بعنوان «دوائر الانتماء وتأصيل الهوية»، وكان السؤال: هل كل هذه الانتماءات تتعارض أم تتوافق أم تتلاحق؟
يرى البشري أن تعبير دوائر الانتماء المتحاضنة يعتبر أكثر دلالة من تعبير الدوائر المتكاملة، وأن هناك فارقاً بين الانتماء والولاء، فالانتماء جبري، أما الولاء فهو يرتبط بمدى العطاء الذي يمليه الانتماء، وكل من المفهومين الانتماء والولاء يرتبطان بالمشاركة، وهذا المثلث من الأركان الرئيسة للدولة.
ويضيف البشري: الانتماءات مثل التروس، يوجد منها الكبير والصغير، ويوجد المربع والمستطيل، وكلها تدور مع بعضها، فهذه تكون حالة الانتماءات لمجتمع يريد أن ينهض، ويحاول أن يربط انتماءاته ببعضها بعضاً، وينسق بينها بطريقة تجعلها متناغمة مع بعضها بعضاً.
وقد كانت سياسة محمد علي وهو ينهض بالأمة ناجعة في إدارة دوائر الانتماء، فكانت تركيبة المجتمع الموجود في مصر على سبيل المثال تتكون من مسلمين وأقباط وألبان وشركس ومماليك وأتراك، فظل يعمل على التنسيق ما بين هذه التكوينات؛ فالأقباط يعرفون جيدًا ما يتعلق بحدود الأرض المصرية، وتحديد الضرائب والعمليات الحسابية، فأوكل لهم هذه المهمة ليفعلوها بكفاءة، أما المماليك فكانوا جزءًا من العسكر بعد قضائه على قادة المماليك الذين كانوا يناوئونه، فاستقطب البقية منهم ليعملوا تحت إمرته وعلمهم فنون الحرب، وولى العثمانيين المناصب العامة العليا في الحكم، وكان يبدل بينهم في الجيوش، فالجيش الذاهب لمحاربة الدولة العثمانية يجعل عدد المماليك فيه أكثر من العثمانيين.
لقد كان يدير التكوينات الموجودة لديه على أساس تنسيقي يحدد الغرض منه بكفاءة غير عادية، ويرضي الجميع، ويكسب كل ما يمكن أن يحصله لحكمه ولدولته من إيجابيات تتعلق بهذا الموضوع، ولم تحدث قط في عهده مشكلات متعلقة بالانتماءات.
وعندما قامت ثورة 23 يوليو، كان في ذهن قادتها تعدد دوائر الانتماء (الإسلام والعروبة وأفريقيا)، فأما الدائرة الإسلامية فلم تفعّل لأسباب سياسية وليس لأسباب تتعلق بالفكر، وفي المقابل كان الانحياز إلى الدائرة العربية بسبب القضية الفلسطينية.
لقد أُصيبت الدائرة الإسلامية بمشكلة التناقض بين السياسات الإستراتيجية للدول العربية؛ ذلك لأن الدائرة الإسلامية تمتد لتشمل تركيا وإيران، وفي إبان الحرب الباردة والصراع الدولي بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية كانت هاتان الدولتان أكثر تضررًا وإحساسًا بالخطر الروسي من الولايات المتحدة الأمريكية، فالأخيرة لم تستعمرهما، أما الروس فكان توسعهم قبل ذلك على حساب أراضي الدولتين، فكان إحساسهما تجاه الخطر السوفييتي يتجاوز كثيرًا الإحساس بالخطر الأمريكي، لذلك تضاربت الإستراتيجيات في ذلك الوقت.
وحدث هذا أيضًا معنا في بداية القرن العشرين، حيث كان أحرار الشام ضد الاستبداد التركي العثماني، فكانوا يتدفقون إلى مصر وكان الإنجليز يرحبون بهم، أما المصريون فكانوا ضد الاحتلال البريطاني، فكانت تركيا ترحب بتدفق المصريين المعارضين للاحتلال البريطاني إليها بمن فيهم مصطفى كمال أتاتورك، وذلك يرجع إلى التناقضات الإستراتيجية.
ومع ذلك يمكن القول: إن الدائرة الإسلامية وإن كانت خاملة في ذلك الوقت، فإنها كانت موجودة في الوعي الثقافي المصري منذ القِدم.
قديمًا كان يوجد كتاب يوزع على أبنائنا وهم صغار به صور لمربعات ومثلثات ذات ألوان مختلفة، فهو يدرب الطفل على التصنيف، إن القدرة على التصنيف جزء من السياسة ومن العلم أيضًا، وكلما تعددت التصنيفات تعددت الدوائر وكانت هناك قدرة على التوفيق بينها فضلًا عن منع العنصر العشوائي من التدخل، وتعدد الانتماءات يعني أننا إزاء توافق أو تناحر، إذ يمكن لهذه الانتماءات أن تتناحر أو تتآلف.
يقول البشري: إن مشاريع نزع الانتماء من صدورنا هي أخطر ما يمكن أن نوجهه في هذه المرحلة، والمعضلة الرئيسة التي نحن بصددها هي: كيف يمكن التوفيق بين إمكانيات الدولة في حفظ التوازن الداخلي وفي إدارة الشأن اليومي خصوصًا البلاد التي لا توجد بها طوائف، كيف يمكن القيام بهذه الأمور من جانب وفي الوقت ذاته أن نمارس المقاومة.
هذه المعضلة حاولت ثورة 23 يوليو حلها، فكانت تريد إخراج البريطانيين من البلاد وتُشكِّل في البلاد مقاومة شعبية، وليس من المفترض أن تترك المقاومة وهي تقوم بإلغاء الأحزاب، فألغت الأحزاب ونزل ضباط من الجيش للمقاومة ووفقت بين الأمرين، كما أرادت نقل هذه التجربة إلى فلسطين فذهب مصطفى حافظ لتدريب كتائب المقاومة الشعبية في فلسطين، ومثل هذه الأمور لا شك أنها تحتاج إلى حلول مبتكرة.
الحقيقة، إن دوائر الانتماء ليست بالضرورة أنها يجب أن تكون متعارضة، فهناك إمكانية للتوافق، كما أن مستويات الانتماء ودوائره من الانتماء الأُسري للمجتمعي للقومي للإقليمي للإنساني لا تتعارض البتة، ومن المعروف أننا كعرب ومسلمين نقع في الدوائر الأفريقية والعربية والأفروآسيوية والمتوسطية، وإذا نظرنا إليها من النواحي الفكرية والعقائدية والسياسية كنا في دائرة عدم الانحياز ولم يكن هناك تعارض، إننا إذا ما تمسكنا بما تعنيه كلمة انتماء فإن مشكلات عديدة ستحل، لأن الكلمة تشمل المسلم والمسيحي من العرب، وهذا هو مكنون ما يجب أن يكون عليه الانتماء في عصرنا الحالي.
في كتابه «الديمقراطية المصرية» الصادر عن «مدارات» وتحت عنوان «حوار الثقافات»، يخلص البشري لحقيقة أن البشر فيما ينتمون إليه من جماعات إنما يدركون هذا التشكيل الذي يضمهم معًا، وبغير هذا الإدراك يزايلهم وصف الجماعة، ولا يقوم لدى أحدهم الشعور بالانتماء للجماعة وهو شعور لا يستهان به، وثمة من الانتماءات ما تتشابك فيه الجوانب المادية مع المعنوية كالانتماء للأوطان والحضارات.