الهوية الإسلامية هي الضوء الذي يقود المسلم في دروب الحياة المظلمة، وحمايتها حماية للاصطفاء الذي منَّ الله به علينا نحن المسلمين في حبله المتين؛ (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ) (الحج 78)، والحفاظ على الهوية ليس ترفاً فكرياً يتردد صداه على الأفواه في أروقة المثقفين وقاعات المحاضرين والمصلحين التربويين، بل هو ضرورة حياتية وقضية أساسية يسعى لها الجميع القاعدة والقمة، الصفوة والعامة، ولا يختلف اثنان أن هويتنا هي الإسلام طوق النجاة وسط الزحام، وصمام الأمان من الذوبان في هوية غيرنا من اللئام والأقزام.
بين الأسود والكباش
من جميل ما سطر شاعر الإسلام محمد إقبال: أن مجموعة من الكباش كانت تعيش في مرعى وفير الكلأ عيشاً رغيداً، ولكنها أصيبت بمجموعة من الأسود نزلت بأرض قريبة منها، فكانت تعتدي عليها وتفترس الكثير منها، فخطر ببال كبش كبير منها أن يتخذ وسيلة تريح من هذا الخطر الداهم الذي يهددها، فرأى أن استخدام السياسة والدهاء والحيلة الوسيلة الوحيدة، فظل يتودد إلى هذه الأسود في مكانها حتى ألفته وألفها؛ فاستغل هذه الألفة وبدأ يدعوها إلى الكف عن إراقة الدماء والعيش في سلام وأمان، وإلى أن تترك أكل اللحم، وأخذ يغريها بأن تارك أكل اللحم مقبول عند الله، وأخذ يزين لها الحياة في دعة وسكون ويقبح لها الوثب والاعتداء؛ حتى بدأت الأسود تميل إلى هذا الكلام وتتباطأ في افتراس الكباش، واكتفت بأكل الأعشاب كما تفعل الكباش.
فكانت النتيجة أن استرخت عضلاتها وتثلمت أسنانها وتقصفت أظفارها وأصبحت لا تقوى على الجري، ولم تعد قادرة على الافتراس، وبذلك تحولت الأسود إلى أغنام لأنها تخلت عن هويتها وعن خصائصها ففقدت ذاتيتها(1).
يقولون: إن التبعية هي جوهر التخلف؛ لأنها دليل على ذوبان الشخصية وفقدان الهوية، وتقليد أراذل البشرية، وديننا الحنيف يدعو المسلم ليعتز بدينه ويستقل في شخصيته وسلوكه، ويأمره أن يكون رأساً لا ذيلاً، متبوعاً لا تابعاً، قائداً لا مقوداً، وللحفاظ على نقاء الهوية وسائل تربوية من أبرزها المسجد والمدرسة، فيا ترى هذه الوسائل بينها شقاق أم وفاق؟
من محراب الصلاة إلى محراب الحياة
المساجد هي رياض الحياة المزهرة وواحاتها رواء لصحراء النفس القاحلة، وهي قلب الأحياء ودوحة الأتقياء، وهي رأس المؤسسات التربوية وأجلها قدراً وأعظمها أثراً، ولا يتم بنيان المرء إلا بتعمير روحه وتثبيت نفسه وتطهير جنانه.
ولا سبيل من تعمير هذه المنطقة المهمة جداً من بنيان الإنسان إلا من خلال مدرسة خاصة لها طابع فذ ونسق فريد خرجت رجالاً أبطالاً ارتفع لواء الإسلام على كواهلهم، وما زالت -هذه المدرسة- مدرسة الله تعالى هي المسجد قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور).
لا ريب أن اللقاءات العلمية في رحاب المساجد لا تؤتي ثمارها اليانعة إلا بالدعوة إلى الفضائل والآداب وتفعيل رسالة المسجد، ليتعلم الناشئة ويتربى الشباب وتنمو في نفوسهم الأخلاق الكريمة وتزكو وتزداد بعقد حلقات تعليم وتحفيظ للقرآن الكريم مثلاً، ودراسة الأساليب التربوية في أحاديث خير البرية حفاظاً على الهوية الإسلامية وتعزيزاً للشخصية السوية، وصيانة لها من الانحرافات الفكرية والعقدية والسلوكيات غير المرضية، وإن كانت هذه أو بعضها موجوداً، لكنه ينبغي المزيد والمزيد فضلاً عن التطبيق والتوظيف، فللمسجد دوره الفعال في النهوض بالمستوى الثقافي للأمة، ولا يكون ذلك إلا عن طريقين:
الأول: تدبر ما يتلى من القرآن في الصلوات الجهرية وخطب الجمعة، والقرآن كتاب يتحدث في العقائد والعبادات والأخلاق والقوانين والشؤون المحلية والدولية، ويصف الكون ويسرد التاريخ مثلما يتحدث عن الله تعالى وصفاته وحقوقه سواء بسواء، وقد كان ذلك المصدر الأول عند السلف.
أما الطريقة الثانية لتثقيف الأمة؛ فهي الدروس التي انتظمت في ساحات المساجد تتناول جميع العلوم، بل إن الشعر كان يلقى في المساجد، وكان الصحابة يستمعون إلى حسان بن ثابت وهو ينشد قصائده السياسية، ومعروف أن المدارس الفقهية الكبرى كانت في المساجد، وأن الأئمة العظام كانوا يلقون تلامذتهم فيها(2).
وهذه شهادة داعية مجرب عاش رسالة الإسلام من خلال المسجد بعقله وقلبه ولسانه لخص رسالة المسجد في كلمات طيبات، فقال رحمه الله تعالى: إن رسالة المسجد هي الإسلام كله، فيوم يصير المجتمع مسجدياً والمسجد مجتمعياً تحل فيه المشكلات في ظل الكتاب والسُّنة، يومها سنخرج على الدنيا كالبحر الطهور الذي تنساب أمواجه تغسل وجه الأرض من أرجاسها وأنجاسها وأدناسها، يومها سنقول بملء الأفواه: سنطبب المريض بدوائنا، وسنؤمن الخائف في رحابنا، وسنتلو على الدنيا كتاب جهادنا، صُمت أذان الدنيا إن لم تسمع لنا(3).
المدرسة ودورها التربوي
العملية التعليمية لها جناحان؛ المدرسة والطلاب، وهما صلب العملية التربوية، وتعد المدرسة من أهم الأعمدة الأساسية والرئيسة لمحاضن تربية الناشئة من البنين والبنات والحفاظ على هويتهم من الشكوك والانحرافات من تقليد غيرهم في اللباس والسلوكيات، وهي من أهم وأضمن السبل للنهوض الحضاري والبناء التربوي، خاصة في مراحل التعليم الأساسي الأولى.
ففي المدرسة يقضي الطالب معظم ساعات يومه، وهي له بمثابة الرئة التي يتنفس من خلالها العلم، ويستنشق من رحيقه ويقطف من أزاهيره، وهي المسؤولة عن وضع وتمهيد الأرضية الأولى للمعرفة العلمية وبناء السقف المعرفي الذي يؤثر على الإنسان ويظل خاضعاً له خضوعاً لا شعورياً مدى أيام حياته.
وحتى تؤتي المدرسة ثمرتها المرجوة وفائدتها المنشودة لا بد أن تقوم العملية التربوية على أساس سليم ومبدأ قويم، ولا بد من مراجعة شاملة لأهداف التعليم ومقاصده، وإعادة صياغته وبناء هيكله على قيم الإسلام وضوابطه، ومن هذه الضوابط والأسس:
أولاً: أن يكون التعليم لجميع الأطفال ذكوراً وإناثاً في سن التعليم إلزامياً، وأن تزال كل المعوقات من طريقه، وتهيأ كل الوسائل لتيسيره، فإن القيام بأعباء الدين والحياة في هذا العصر لا يتم إلا بحظ معقول من التعليم، ولو كان هو الحد الأدنى، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثانياً: وضع خطة مدروسة لمحو الأمية المنتشرة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي بدأ منذ السنة الثانية من الهجرة في معركة «بدر» يمحو الأمية ويعمل على نشر الكتابة.
ثالثاً: تنويع التعليم بحيث يشمل كافة المجالات العملية والنظرية الدينية والدنيوية والأدبية والتكنولوجية، وبحيث يفسح المجال للنبوغ والعبقرية، وأن تبلغ أعلى مستويات الدراسة والتخصص دون عائق مادي أو معنوي.
رابعاً: أن يكون الإسلام مادة دراسية أساسية في جميع المراحل التعليمية من المرحلة الأولى إلى الجامعة، وفي جميع أنواع التعليم(4).
وإن كانت هذه هي السكرة، فنسأل الله تعالى أن تحين الصحوة، وأن يستعد المسلمون لما يدبر لهم بليل، فالحذر الحذر، والبدار البدار.
_____________________
(1) هويتنا أو الهاوية، ص54.
(2) مائة سؤال عن الإسلام، ص70–71.
(3) قصة أيامي، ص30.
(4) الحل الإسلامي فريضة وضرورة، ص44-45.