يهتم الخطاب العلماني بالتاريخ الإسلامي من منطلق استحضار الأحداث والنوازل بمنظور نقدي حد الإنكار والتكذيب أحياناً، وبغرض استعراض مجمل التشريعات الإسلامية باعتبارها نماذج اجتهادية غير مقدسة قابلة للنقد والتجاوز، بغرض إخضاع التاريخ الإسلامي، وأحياناً الدين الإسلامي برمته، إلى مراجعة حداثية تحاكم ذلك التاريخ بمنظور الواقع وتسقط معايير الحاضر على مجريات الماضي من أجل تفكيكه والادعاء بعجزه عن مواكبة العصر ومجاراة التطور بشكل عام والتطور الحضاري بشكل خاص والتطور السياسي بشكل أخص.
ويتعاطى الخطاب العلماني مع الخلافة بشكل رئيس من أجل نقد وتفكيك الرؤية والاجتهاد الإسلاميين في المجال السياسي بغرض التأكيد على تجاوز العصر لمفهوم ومكنون الخلافة، وضرب شرعية الحركات الإسلامية المُعاصرة باعتبارها حركات محافظة معادية للتغيير ومعارضة للتقدمية والحداثة ومنكفئة على التراث، ومن ثم إثبات ماضويتها واستغراقها في التاريخ وغياب قدرتها على المراجعة الموضوعية القادرة على فهم ومحاكمة التراث الإسلامي بالقدر الذي يسمح بتجاوزه والتخلي عنه.
العلمانية والإلحاد
ويخلط كثيرون -وبخاصة في الخطاب الإسلامي- بين العلمانية والإلحاد باعتبارهما مرادفين لنفس الظاهرة، بينما يميل آخرون لتمييز تام بين المفهومين باعتبارهما شديدي الاختلاف والانفصال عن بعضهما بعضاً، وبدون الدخول في جدل تنظيري حول التمييز بين العلمانية والإلحاد، فإن الخطاب العلماني يتولى مراجعة الإسلام من حيث غياب وجود نظام سياسي إسلامي مقدس يمكن الاستناد إليه كمرجع وحيد للشكل الأمثل للحكم، بينما يتجاوز الإلحاد المجال السياسي المرتبط بمعايير الحكم والإدارة إلى سائر تبديات الظاهرة الدينية من حيث التشريع وحقائق التاريخ والمعجزات والنبوة والرسالة ويوم القيامة وغيرها باعتبارها غيبيات لا يمكن الجزم بحقيقتها والافتقار لإمكان إثباتها بالدليل المادي، ومن ثم فإن الخطاب الإلحادي يُشكك بالأساس في الدين كرسالة سماوية تأخذ بيد البشر إلى الخير الذي يرشدهم إلى صلاح أحوالهم الدنيوية ثم يقودهم نحو سعادتهم الأبدية.
العلمانية والهجرة
وبينما ينكر الخطاب الإلحادي الأديان بكافة أشكالها والرسالات السماوية بتنويعاتها، فإن الخطاب العلماني يشكل تحدياً أكبر بقبوله المبدئي بالأديان مع تصديه بالنقد والتشكيك لدقائق الدين وبعض تفصيلاته بدافع تجاوزه أو حصر الدين في مجموعة من الشعائر الشكلية والممارسات الفردانية التي لا تتعدى ذلك إلى المجال العام أو السياسي، وذلك للحيلولة دون توظيف الدين توظيفاً جماعياً لمناهضة الظلم أو مقاومة الباطل.
وتُمثل الهجرة الإسلامية اللبنة التاريخية الأولى في تشكل الدولة الإسلامية الناشئة وركيزتها الأساسية التي بُنيت عليها لتُشكل ملامح الحكم الفاضل الإسلامي في عصره الذهبي وتجليه الأكثر نقاءً، إذ ساءلت الهجرة إيمان المسلمين واختبرت عزيمتهم في تحويل مظالمهم إلى فعل حركي ثوري، مطالبة إياهم إلى دفع الاضطهاد ومجابهة الكفار عبر «الهجر» و«الترك» و«التضحية» والانتقال من دار الشرك إلى دار الإيمان معنوياً ومادياً متخلين في سبيل ذلك عن أموالهم وديارهم وأهليهم وأولادهم فداءً لإيمانهم، فكانت بذلك اختباراً حاسماً لعزيمة السابقين الأولين الذين لن يلبثوا أن يؤسسوا أركان الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة تحت إشراف نبوي وهدي إلهي، فكان أن أظهرت الهجرة أسس الدولة الإسلامية في شكلها الأمثل متسلحة بالإيمان والنبوة والوحي كأعمدة رئيسة مكنت دولة الإسلام في المدينة من أن تنشر إشعاعاً حضارياً ملأ ظلمات الجهل وبدد آفاق الضلال في أرجاء الأرض مُبدلاً إياها نوراً وطمأنينة.
الهجرة في ميزان العلمانية
وتنطوي الهجرة طبقاً للرؤية العلمانية على عدد من المبادئ التي تضعها موضع الانتقاد، منها:
– رفض الغيبيات القائمة على الاعتقاد في الظواهر الإعجازية، ومن ثم التشكيك في المعجزات التي وردت في الروايات الإسلامية التاريخية التي تناولت الهجرة ومعجزاتها.
– تُشكك بعض الانتقادات العلمانية في الروايات التاريخية حول الهجرة عبر إخضاع المصادر الإسلامية التقليدية التي تناولت الهجرة للنقد، مثل السيرة النبوية التي كتبها ابن إسحاق، وابن هشام، إذ تشير بعض الانتقادات إلى أن هذه المصادر كتبت بعد عقود من وقوع الحدث، بما يدفع نحو الطعن فيها، وهي انتقادات لا تراعي السياق التاريخي الذي مثلت فيه الروايات والنقل الشفهي وسيلة أساسية في تداول الأحداث التاريخية في ظل انتشار الأمية وندرة التدوين.
– النموذج السياسي الذي أقامته الهجرة في المدينة هو نموذج ديني قائم على تنفيذ الهدي النبوي المنطلق بالأساس من الوحي، ومن ثم تروج الهجرة -بالنسبة للعلمانيين- إلى النموذج الثيوقراطي في الحكم، والقائم على حكم رجال الدين الذين يدعون لنفسهم القداسة والعصمة وهو ما يتعارض كلياً –طبقاً لادعاءات العلمانية- مع النموذج العلماني القائم على الحكم البشري الخاضع للنقد والمراجعة.
– الفرز الثنائي الذي أسست له الهجرة استناداً لفكرة «دار الإسلام» و«دار الكفر/ دار الحرب»، وما انطوت عليه تلك الفكرة ي الرؤى العلمانية– من تشدد ديني وبخاصة بعدما استلهمت كثير من الحركات الإسلامية تلك الازدواجية في العصر الراهن، بما أنتج عدداً من الأفكار المنغلقة والمتطرفة، وهو ما يتعارض مع المبدأ العلماني المؤسس لدولة المواطنة التي تساوي كُلياً بين المواطنين بغض النظر عن دياناتهم، وهو المبدأ الذي ابتكره الغرب العلماني بغية المساواة المطلقة بين المذاهب المسيحية بعد حروب طائفية طاحنة، لكنه لم يُطبق بنفس القدر من المساواة والتسامح تجاه المسلمين المقيمين في تلك الدول.
– بينما تعتبر أغلب الكتابات السياسية دولة المدينة النبوية باعتبارها النموذج الأمثل للحكم في الإسلام –بالإضافة إلى فترات من عصور الخلافة الراشدة- فإن الخطاب العلمانية ينظر بريبة إلى تلك الفترة باعتبارها غير قابلة للتطبيق أو الاستنساخ، ومن ثم لا يجب القياس عليها إذ خضعت لوحي مقدس انتهى، وأي محاولة لاستلهام ذلك النموذج بالاستناد إلى القرآن والسُّنة هي مجرد اجتهادات بشرية تحاول اكتساب قداسة لنفسها ومن ثم هي مرفوضة –بالنسبة للميزان العلماني– خاصة أن بعض الاجتهادات العلمانية قد أسست لمبدأ مراجعة القرآن الكريم ونصوصه تحت إطار منهج الخطاب في محاولة لإثبات تاريخية نصوص القرآن الكريم التي لم تعد صالحة للتطبيق في العصر الراهن.
لقد مثلت الهجرة أساساً فاصلاً في تشكيل الدولة الإسلامية الفاضلة تراءى في الواقع العملي التطبيقي كنظام حكم بشكل لم يسبق له مثيل، إذ شاعت «اليوتوبيا» التي تتخيل النظام الفاضل ثم يليها محاولات التطبيق، فتفرد النظام السياسي الإسلامي بأن بزغ أولاً في الواقع ثم صار فكراً يوتوبياً تحاول الأدبيات السياسية الإسلامية استلهامه واستعادته، وهو ما جعل الهجرة محطة إسلامية متفردة خصص لها الخطاب العلماني كثيراً من الاجتهادات التي تبتغي النيل منها والتقليل من أهميتها وتجاوزها لتسليط الضوء بشكل أكبر على نماذج إسلامية غير رشيدة عبر مراحل الخلافة المتعاقبة بغرض إبراز الخلافة كنموذج وحيد للمقاربة الإسلامية في فن الحكم، مع تعتيم كبير على دولة المدينة التي أرستها الهجرة، وما انطوت عليه من أسس ومرتكزات فاصلة في فهم الفلسفة الإسلامية في الحكم والتنظيم الاجتماعي والسياسي.
وهو ما يتطلب جهداً إسلامياً لإعادة تناول مسألة الهجرة من منظور سياسي دون الاكتفاء باستجلاب الهجرة كحدث تاريخي وديني مقتطعاً من سياقاته للاستفادة من دروس الهجرة، وفهم الرؤية الإسلامية بشكل أعمق يمكن من مجابهة المحاولات العلمانية لتهميش تلك المحطة التاريخية الإسلامية المهمة وتجاوزها.