تندلع في مدن بريطانية عديدة اضطرابات عنصرية إجرامية عنيفة وتخريب وشغب هي الأسوأ منذ 13 عاماً، فما أبعادها؟ ومن المتورطون؟ وما الأسباب الآنية والعميقة وراء ذلك؟
شن اليمين المتطرف حملة تحريضية غير مسبوقة على المسلمين عبر منصات التواصل، بعد استغلال حادثة الطعن ضد البنات البريئات في «ساوث بورت»، بمعلومات مضللة كاذبة تربط الهجوم بالمسلمين؛ بهدف تصعيد الكراهية والعنصرية ضدهم، وزعمت منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي أن المشتبه به هو مسلم، وأنه مهاجر وصل إلى بريطانيا بطريقة غير قانونية على متن قارب العام الماضي، ولكن المشتبه به وُلد في كارديف لأبوين روانديين مسيحيين، وللأسف تباطأت الشرطة في الطلب القضائي بنشر اسمه بحجة صغر سنه مما أتاح انتشار الشائعات.
التطرف اليميني موجود بأنحاء أوروبا وأصبحت المجتمعات الديمقراطية مهددة بالعنصرية ومعاداة التعددية
ورغم العلم بأنه غير مسلم، انتشرت الاضطرابات الموجهة في الأصل ضد المسلمين والمساجد، وكذلك الملونين والمهاجرين، وتم الاعتداء على الفنادق التي يقطن فيها طالبو اللجوء، وسيارات الشرطة والأجرة، والبيوت والجامعات والمتاجر والمكتبات التي اقتحمت ونهبت وحرقت، وضد الشرطة الذين جُرح كثير منهم.
اليد المحركة واليد الملطخة
تدل طبيعة التخريب والإرهاب للاضطرابات على تحريكها من قبل اليمين المتطرف الذي استخدم الإنترنت لتلويث العقول ولبث الأباطيل المضللة، من أمثال الإرهابي تومي روبنسون، رئيس «رابطة الدفاع الإنجليزية» المتطرفة السابق، الذي نشرت صحيفة «الديلي ميل» صورته على الغلاف وهو يقضي عطلته في قبرص، وجاء في العنوان الرئيس: «يثير أعمال شغب عنصرية من سريره الشمسي»، فيقوم بتأجيج العنف في جميع أنحاء المملكة المتحدة من خلال المنشورات التحريضية على الإنترنت، وتقول الصحيفة: إنه نشر الأكاذيب أكثر من مائة مرة على موقع «إكس» خلال عطلة نهاية الأسبوع، وحظي بمتابعة الملايين.
أما اليد الملطخة، فهي حثالة المجتمع من عصابات المجرمين من العنصريين البيض البلطجية والمعروفين بالقيام بشغب ملاعب الكرة، ومنهم مجرمون مدانون بأحكام قضائية، وينتمي معظمهم إلى «رابطة الدفاع الإنجليزية»، وتخطط هذه العناصر الغوغائية لفعل هذه الفوضى الإجرامية في 30 مدينة، ويجب على الحكومة حظر هذه الجماعات والأشخاص الذين يعيثون في الأرض فسادًا.
ولا شك من وجود آخرين يشجعون ما يحدث حضورياً أو غيابياً من السياسيين والإعلاميين العنصريين الكارهين للإسلام والمهاجرين، ولقد كشفت الانتخابات البرلمانية الأخيرة عن رقم مخيف، فقد صوت للحزب العنصري ضد الهجرة «Reform UK» حوالي 4 ملايين ممن اشتركوا في التصويت فقط.
وهناك الغاضبون ممن طحنهم الفقر وارتفاع تكاليف المعيشة، ومشكلات الخدمات الصحية والتعليمية والإسكانية، وظنهم أن مهاجري القوارب وطالبي اللجوء هم سبب ذلك، نتيجة ما يسمعونه ليل نهار من أبواق العنصرية، وللعلم فالمهاجرون «غير الشرعيين» وطالبو اللجوء لا يشكلون إلا نسبة صغيرة جداً من العدد الكلي، أما الهجرة «الشرعية» فزادت للغاية منذ أن فتحت بريطانيا أحضانها للمهاجرين من أوكرانيا وهونج كونج، ثم للهنود والنيجيريين كعمال ماهرين.
ما التطرف اليميني؟
من 26 تعريفاً للتطرف اليميني يمكن اشتقاقه من الأدبيات، تم ذكر سمات رئيسة، وهي: القومية، والعنصرية، وكراهية الأجانب، ومناهضة الديمقراطية، تبني الدولة القوية(1)، وسجل كتاب «أيديولوجية اليمين المتطرف» في نهايته قائمة بأسماء 53 حزباً من الأحزاب الشديدة التطرف في 15 دولة من أوروبا الغربية، تشمل القائمة الأحزاب السياسية التي تعتبر بشكل عام أعضاء من عائلة أحزاب اليمين المتطرفة التي اشتركت في انتخابات على مستوى الدولة مرة واحدة على الأقل(2).
الجماعات المهيمنة في أقصى اليمين البريطاني قامت بالتركيز على الإسلام والمسلمين في الأعوام الأخيرة
هذا التطرف اليميني ظاهرة موجودة في جميع أنحاء أوروبا، ولكنها تصاعدت مؤخراً، بحيث أصبحت جميع المجتمعات الديمقراطية مهددة بالعنصرية وبالأفكار الاستبدادية وبالمعاداة للتعددية، وعلى الرغم من أنه يختلف في طابعه وأيديولوجيته من بلد إلى بلد، فإنه يسعى إلى تقييد الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، وكذلك لتغيير الهياكل الدستورية التي تستند إلى مبادئ الديمقراطية والحرية.
وتواجه البلدان الأوروبية هذا التحدي بطرق مختلفة، وصار الإسلام والمسلمون والهجرة والمساجد والحجاب والشريعة أدوات ورموزاً يلوح بها اليمين المتطرف، ليكتسب أنصاراً وليشعلها كراهية وناراً، ففي هذا التطرف من يحب الفوضى ويعشق الفساد، وهو تحد خطير أمام المسلمين في أوروبا.
نزعة القومية البيضاء
وحذّر خبراء من أن اليمينَ المتطرف في بريطانيا أصبح ينتهج بشكل علني سياسة عنصرية أشدّ صرامة في أعقاب ردود الفعل على الاحتجاجات الدولية الداعمة لحركة «حياة السود مهمّة».
وجاء في تقريرٍ صادر عن مجموعة «أمل لا كراهية» أن أعواماً من هيمنة تومي روبنسون، وهو ناشط عنصري بريطاني مناهض للإسلام، وشخصيات أخرى، فتحت المجال أمام تنامي نزعة القومية البيضاء، ووجد التقرير أن نمو جماعة «البديل الوطني» الجديدة التي تدعو صراحة إلى طرد السكان غير البيض من المملكة المتحدة، يشير إلى منعطف نحو سياسات عنصرية أكثر علانية، وهي تحرض الناس على توزيع ملصقات عنصرية ترفع شعارات، منها: «الحضارة الغربية هي حضارة بيضاء»، و«أوقفوا الهجرة».
وأوضح التقرير أن الجماعات المهيمنة في أقصى اليمين البريطاني قامت بالتركيز على الإسلام في الأعوام الأخيرة، وتركت ممارسة العنصرية العلنية لحركات «الفاشيّين المتطرفين»، مثل جماعة «العمل الوطني» (تابعة للنازيّين الجدد) التي تنشط على شبكات الإنترنت، وأدرجتها بريطانيا ضمن المنظّمات الإرهابية المحظورة، وقد جاء في أحد منشوراتها أن «الشعب البريطاني هو من أصل أبيض، وأن أفراده ليسوا من ذوي البشرة البنية أو السوداء ولا من أصول آسيوية أو يهودية»(3).
أبرز الحركات اليمينية المتطرفة في بريطانيا
حذر المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات(4) أن بريطانيا تواجه تهديداً جديداً وكبيراً من الإرهاب اليميني المتطرف المنظم، حيث يعد أكثر أهمية وتحدياً من التهديد «الجهادي»، وعدّد أبرز هذه الأحزاب:
خبراء يحذرون من أن اليمين المتطرف في بريطانيا أصبح ينتهج بشكل علني سياسة عنصرية أشدّ صرامة
– «حزب الاستقلال البريطاني» تأسس عام 1993م وحدّد لنفسه هدف الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والآن انصرف زعيمه لحزب آخر أشد تطرفاً ضد الهجرة أسس عام 2018م وهو حزب التغيير (Reform UK) الذي حصل على 5 مقاعد في انتخابات البرلمان الأخيرة.
– حركة «بريطانيا أولاً»: دشنت عام 2011م من أعضاء سابقين لحزب «التحالف الوطني»، وتهدف مفاهيمها إلى إنهاء «الأسلمة» في المجتمع البريطاني، ومناهضة الهجرة للبلاد بغض النظر عن لون البشرة أو العرق، ووصل عدد متابعي صفحتها 1.4 مليون متابع، وتبنت الحركة هجوماً على بعض المساجد، تحت اسم «الدوريات المسيحية».
– مجموعات «العمل الوطني» من النازيين الجدد، و«هوية الجيل الأول»، و«رابطة الدفاع الإنجليزية» المتطرفة المعادية للإسلام والمسلمين خاصة، وجيل جديد من المتطرفين الشبان، وثلاثة من البريطانيين من «دعاة الكراهية» في العالم يحظون بأكبر نسبة متابعة من أكثر من مليون شخص لكل منهم في شبكات التواصل.
وكشف أحد صحافيي «الجارديان»، في تسجيل سري لرابطة الدفاع الإنجليزية، عن انضمام عناصر من الجيش البريطاني لدعم تلك المنظمة العنصرية، وأن قسم القوات المسلحة على الإنترنت لديه 842 عضواً، وتقول المنظمة: إن العديد من الجنود العاملين يحضرون المظاهرات ضد الإسلام، تقول «الجارديان»: «على مدى أشهر حضرت الجريدة المظاهرات وكانت شاهداً على ما تقوم به هذه الفئة من عنصرية وعنف وخبث وتخويف من الإسلام»(5).
ويعتبر الحزب القومي البريطاني (BNP) أشد الأحزاب البريطانية عنصرية ومعاداة للبريطانيين لمن هم من عرقيات غير بيضاء أو من الديانات غير المسيحية، وبات شعار «معاداة الإسلام» السلاح الذي يستقوي به الحزب لجذب أكبر عدد من المنتسبين إليه، وانحصرت جهود الحزب في الآونة الأخيرة في تشويه صورة الإسلام لدى الرأي العام البريطاني، وتم نشر قائمة تضم أسماء أكثر من 10 آلاف من أعضاء الحزب العنصري على شبكة الإنترنت، ومنهم من يعمل في سلك الشرطة والتعليم والجيش.
وقد استطاع مراسل «هيئة الإذاعة البريطانية» أن يندسّ ويسجل سراً ما يقال في اجتماعاتهم، ورصد قول زعيم الحزب، أخزاه الله: «إن الإسلام ديانة شريرة وعنيفة انتشرت على أيدي حفنة من المجانين الحمقى، وتمتد الآن من بلد إلى بلد»، وقال عضو آخر: «إنه يريد أن يفجر مسجد برادفورد بالصواريخ»، وقد وزع الحزب نسخاً من رسومات الكرتون المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم(6).
اللعبة الديمقراطية
ولأن قسماً من اليمين المتطرف استسلم للأمر الواقع مؤخراً وقبل باللعبة الديمقراطية ووجد فيها ضالته، ففي الانتخابات البرلمانية الداخلية والأوروبية ارتفعت أسهم الأحزاب العنصرية ضد المهاجرين في كل من بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، والمجر ورومانيا.
الحزب القومي البريطاني أشد الأحزاب البريطانية عنصرية ومعاداة للبريطانيين لمن هم من عرقيات غير بيضاء
ومن النتائج الخطيرة لدعوى أن اللاجئين يشكلون خطراً أمنياً على أوروبا، هو التأثير الاستقطابي الذي تحدثه، واستغلال وسائل الإعلام لها، وقد كان رهاب الأجانب موجوداً أيضاً في حملة استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأدى تدفق أكثر من مليون لاجئ في عام 2016م وحده إلى زيادة شعبية الأحزاب القومية، مثل حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، وحزب البديل من أجل ألمانيا ليمثل أول حزب قومي متطرف يفوز بمقاعد في البرلمان منذ الحرب العالمية الثانية(7).
طاقة أمل
خارج أحد أول مساجد البلاد (مسجد عبدالله كويليام في ليفربول) استطاع المصلون التحدث إلى الحاضرين بعد أن هدأت الاضطرابات خارج المسجد، وكانت الصور الناتجة التي تُظهر مشاركة الطعام والعناق والمصافحة، من بين المنشورات الأكثر إيجابية التي تمت مشاركتها على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، وتذّكر الإمام كيف كاد أحد الرجال أن ينهار في البكاء بعد أن تمت دعوته لتناول وجبة في مطعم بعد حدث ما، وقال: «إن أحداً لم يعامله بهذه الطريقة من قبل»(8).
من جانب المسلمين لعل ذلك يشي بأنه يجب محاولة التفهيم والتفاهم والاقتراب والتقارب طمعاً في الاندماج الذي يبدو صعب التحقيق لأنه كالحب لا يتحقق من طرف واحد!
___________________________
(1) Cas Mudde, “Right-wing extremism analyzed. A comparative analysis of the ideologies of three alleged right-wing extremist parties”. European Journal of Political Research, 27:2, (1995): 203–24.
(2) Cas Mudde, “The Ideology of the Extreme Right”. (Manchester University Press, 2002), 185-186.
(3) ليزي ديردن، «اليمين المتطرف البريطاني صار أكثر عنصرية»، الإندبندنت العربية، 21 أغسطس 2020م.
(4) المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، «مكافحة الإرهاب في بريطانيا- تنامي أخطار اليمين المتطرف»، 19 أغسطس 2019م.
(5) Matthew Taylor, “English Defence League: Inside the violent world of Britain’s new far right”. The Guardian 28 May 2010
(6) BNP activists admit to race crime, BBC, 15 July 2004.
(7) Cameron Sumpter, and Joseph Franco, “Migration, Transnational Crime and Terrorism: Exploring the Nexus in Europe and Southeast Asia”. Perspectives on Terrorism, 12, 5 (2018), 41.
(8) Mosque leaders find moments of hope after violent disorder, BBC, 5 August 2024.