سمعت إحداهن تشتكي من طول سفر زوجها، قائلة: إنها حسبت ما قضته معه فعلياً خلال 20 عاماً، فلم يتجاوز العامين؛ أي متوسط شهر أو يزيد قليلاً كل عام.
تقول أخرى: يغيب عني زوجي ما يزيد على العامين والثلاثة؛ بدعوى تحصيل الرزق، وتأمين مستقبل الأولاد، دون أن يعبأ بي وبمشاعري واحتياجي له.
تروي ثالثة أنها تخجل من كشف شعرها وزينتها أمام زوجها؛ نظراً لسفره لمدد طويلة، حتى باتت تشعر بأنه رجل غريب عنها، وأنها غريبة عنه.
وتشكو رابعة من أن زوجها لم يرب معها طفلاً واحداً، فقط يضع البذرة في رحمها، ثم يغادرها، ليشاهد صوره تباعاً لمراحل نموه، دون أن يعايش لحظات طفولته، ومراهقته، وشبابه.
مقتطفات من فضفضة النساء، ممن يعانين من غربة أزواجهن، وسفرهن إلى بلدان الخليج مثلاً؛ لجني المال، وتحويل مبالغ نقدية لهن شهرياً، حتى تحول الزوج إلى مجرد «فيزا» فقط، تاركاً الزوجة في معترك الحياة، وسط بحر متلاطم الأمواج من الضغوط والمسؤوليات، والاحتياجات النفسية والجسدية.
ربما، هناك مجتمعات لا تعاني من تلك المشكلة بشكل كبير؛ نظراً لارتفاع مستوى الدخول؛ ما يعني تراجع وندرة الأسباب الداعية للسفر بحثاً عن العمل وغيره، لكن هناك بلداناً تعاني ظروفاً اقتصادية وسياسية صعبة؛ ما يضع الزوج قسرياً أمام خيار الغربة، وربما المنفى لسنوات.
ومن صور التمادي في هذا الظلم على الزوجة، ممارسة المزيد من الضغوط عليها، ومطالبتها بالصبر، والتقليل من معاناتها، بدعوى أن زوجها يؤمّن لها مستقبلاً زاخراً بالمال والذهب ورغد العيش، دون النظر إلى التداعيات والآثار السلبية الوخيمة التي يخلفها ذلك عليها وعلى أبنائها.
كم من أسر تفككت وضاعت بسبب سفر الزوج! وكم من أبناء فشلوا دراسياً وانهاروا أخلاقياً نتيجة غياب الأب والمربي! وكم من زوجة ضعفت ومرضت نفسياً وجسدياً جراء غياب شريك حياتها، وربما طلبت الطلاق للضرر، أو وقعت في الحرام بحثاً عن إشباع مفقود، لا تلبيه الأوراق النقدية!
هنا تقتضي المصارحة، القول: إن من الأزواج من قد يشبع شهوته ورغباته، فيتزوج في الغربة، بدعوى أنه يخشى على نفسه من الفتنة، متجاهلاً زوجته التي صبرت على فراقه، وهي كذلك تخشى على نفسها من الفتنة، لكن ما بيدها حيلة.
ضغوط نفسية
تفيد دراسات علمية بأن أخطار الإصابة بالتوترات النفسية والضغوطات العصبية تزيد بنسبة بلغت ثلاث مرات بين الزوجات، اللاتي يعانين من سفر أزواجهن باستمرار، وأن السفر المتكرر لفترات طويلة يصيب الزوجة بالإحباط والاكتئاب، وصولاً إلى المعاناة من أمراض جسدية، وربما تدهور صحي كبير.
ويقلل خبراء العلاقات الأسرية من جدوى الهدايا الثمينة التي قد يحضرها الأزواج المسافرون لزوجاتهم، مؤكدين أن الاستقرار الأسري لا يتوافر في حياة زوجية لا تتجاوز الشهر سنوياً، أو عبر علاقة زوجية متقطعة على فترات بعيدة، بل إن تلك الأجواء قد تكون محفزة نحو بيئة يسودها التشاحن والنفور والاغتراب الداخلي.
وقد يسوء الأمر، حينما يصر الزوج على عدم اصطحاب الزوجة وأبنائه لمشاركته رحلة الغربة؛ بدعوى توفير المزيد من المال، أو بسبب التكلفة الباهظة للمعيشة في الخارج، أو جراء اشتراطات نظامية وقانونية، أو لأسباب أخرى، لا يتسع المقام لذكرها، لكن المعاناة تتفاقم نفسياً واجتماعياً، والضحايا كثر.
نعم، ليست الزوجة فقط هي من تدفع الثمن عقلاً وقلباً وجسداً، بل الأبناء أيضاً الذين يبحثون بلا جدوى عن الأمان في حضن أبيهم، والدعم النفسي بين يديه، والدفء الأسري باجتماعه معهم يومياً على مائدة الطعام، ولهوه معهم، ومتابعته لهم دراسياً وأخلاقياً، كذلك يدفع الزوج الثمن بالحرمان من إعفاف نفسه، والإشباع الجنسي والعاطفي، كما يحرم نفسه من رؤية ضحكة أطفاله، التي لا تقدر بثمن، مما يجمعه من مال.
نعم، لا حرج عليه إذا اغترب لطلب الرزق أو غيره، لكن عليه أن يتحوط من طول مدة السفر، وأن يأخذ حذره من دعاة الفساد، ومثيري الشهوات، فلا ينسى حق زوجته عليه، ولا يهمل رغبتها في الإشباع العاطفي والجنسي، فهو السكن لها، وحصنها من المودة والرحمة، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه سأل ابنته حفصة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: خمسة أشهر، ستة أشهر، فوقَّتَ للناس في مغازيهم ستة أشهر، يسيرون شهراً ويقيمون أربعة ويسيرون شهراً راجعين.
يقول الفقهاء: وإن لم يكن للمسافر عذر مانع من الرجوع وغاب أكثر من ستة أشهر فطلبت قدومه لزمه ذلك، وذهب آخرون إلى رد الأمر في هذه المسألة إلى الزوجين، فهما أعلم الناس بأحوالهما، فإن اتفقا على مدة معينة تعلم الزوجة إطاقتها للصبر فيها عن زوجها، فلا حرج عليه في السفر سواء زاد وقته عن ستة أشهر أو نقص، أما إذا اختلفا فلا مفر من الرجوع إلى القاضي؛ للحكم بما يراه من شرع الله عز وجل.
ختاماً، أهمس في أذن كل زوج مغترب، ناصحة إياه بأن يتقي الله في زوجته، وأن يوفر لها حصن العفاف والسكن، وأن يقدر مشاعرها وعواطفها، وأن يحفظ لها عرضها ودينها، في زمن كثر فيه الذئاب، فالحياة ليست مالاً فقط.