عرض القرآن الكريم للحرية في العديد من آياته، بشكل مباشر أو غير مباشر، بما يليق بأهمية وجلال هذه القيمة للإنسان ونهضته، وارتباطها بكل ميادين الحياة، وقد بدا من السياقات التي وردت خلالها اقترانها بمقاصد الشريعة ومحاور تكريم الإنسان، فيكون الإسلام بذلك سابقًا المواثيق الأممية والدولية في تقرير هذه القيمة وتعزيزها؛ لينبذ بها عبودية البشر بكافة أشكالها، وليحمي أفراده وينظم بينهم العلاقة القائمة على الاحترام والالتزام بالحقوق والواجبات.
مفهوم الحرية
تُعرَّف الحرية بأنها قدرة الفرد على تحديد خيار من بين خيارات دون إكراه، وهي ضد العبودية. وفي الاصطلاح الإسلامي أن الله خلق الإنسان حرًّا، وأعطاه إرادة ومشيئة، فلا يُكره أو يُجبر على شيء، وهو مُحاسبٌ أمام الله على أفعاله، فإن انتُزعت منه تلك الإرادة وجُرّد من الاختيار وأُكره على شيء فله العذر ولا إثم عليه؛ (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ…) [النحل: 106]، «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه» [ابن ماجه والبيهقي].. ولا تكون حرية للإنسان إلا بالعبودية لله أولًا، فإنها تحرره من العبودية للمخلوقين، وكان هذا ديدن الأنبياء والمرسلين؛ (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ…) [ص: 17]، (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ…) [الأنفال: 41]، وعاب الله –تعالى- على من سبقونا كونهم صاروا عبيدًا لكبرائهم؛ (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ…) [آل عمران: 64].
أصل الحرية
وعليه؛ فإن أصل الحرية في الإسلام هو الإنسان، والتي تُفقد بفقدانه، فهناك تلازم بينهما، وجوهر رسالة الإسلام هو تحرير هذا الإنسان، وتكريمه، وفك القيود التي تكبله؛ ليخلص العبادة لله، ويحمل الأمانة الموكلة إليه بجدارة، فالحرية هي رمز إنسانية الإنسان، ولا تنفصل البتة عن غاية خلق الآدمي وتصور الإسلام عن علاقته بالكون والحياة.. وإذ أراد الله تعالى للإنسان استخلافه في الأرض فإنه كرّمه على الخلائق جميعًا، وكان من لوازم ذلك حريته التي هي رمز آدميته المكرّمة.. إذًا الحرية في التصور الإسلامي ضرورة إنسانية وفريضة دينية، وهذا الفريضة ربطها الإسلام بالإنسان عمومًا، فوجب على المسلم أن يقررها لنفسه ولغيره من البشر، فلا يكره أحدًا على دينه؛ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ…) [البقرة: 256]، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99].
من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
يقرر الله -تعالى- الحرية للخلق جميعًا في الإيمان أو الكفر، فلا يُجبر إنسان إنسانًا على اعتناق دين؛ لأنه لو شاء ربك لفعل ذلك؛ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس: 99]، (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [سورة الكافرون].. وهذا لا يمنع المسلم من الدعوة بين الناس لتبيين طريق الرشد وطريق الغيّ، بل هو مكلفٌ بذلك، لكن الإجبار على أي الطريقين ممنوع؛ فإن شرع الله واضح لا غموض فيه؛ (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…) [الكهف: 29]، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) [هود: 28].. أما مصير الجاحدين بالله ممن لم يستجيبوا لنداء المؤمنين فهذا مما يقرره الله –تعالى- يوم الحساب؛ (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الزمر: 14، 15].
إفساح المجال للحرية الشخصية
وإزاء تقرير حرية العقيدة، أفسح الإسلام المجال أمام الإنسان لممارسة حريته الشخصية؛ باعتبارها حقًّا مكتسبًا مثل حقه في الطعام والشراب والسفر والتنقل إلخ، فالإنسان مسؤول عن نفسه، وتلك المسؤولية تقتضي الحرية، والحرية تعطيه الحق في الموازنة والاختيار، وهو وحده من يتحمل نتائج هذا الاختيار؛ (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى…) [الإسراء: 15]، (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ: 50]، فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعلى نفسه أيضًا، والمسلم غير معني بضلال غيره ما دام لم يقصر في تبليغ دعوته، فإنما هي سنة الله في عباده، وله في خلقه شؤون؛ (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران: 20]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المائدة: 105].
حرية الرأي والتعبير
كفل الإسلام للإنسان، أي إنسان، الحق في إبداء الرأي دون كبت أو قهر، أو أن يلحقه أذى جراء ذلك؛ ما يفضي إلى الحق في التفكير والإبداع، والتحاور بلا قيود، وقد حسم القرآن هذا الأمر في سورة البقرة في الحوار الذي دار بين الله –جل شأنه- ونبيه إبراهيم -عليه السلام-؛ (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ….. الآية) [البقرة: 260]، فالحوار هنا عبرة للمستبدين برأيهم، المستهينين بغيرهم، فإنه حوار بين الرب –سبحانه- والعبد، قائم على العقل والمنطق، والحجة والبرهان، والأخذ والردّ، وهذه أصول الحوار التي دعا إليها الإسلام، فالمتحاوران على أرضية واحدة، من دون تعالٍ أو استكبار، وإلا فقد الحوار معناه؛ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ: 24، 25].. وقد عاب القرآن الكريم على أولئك الذين يثيرون الصخب والجدل عن جهل ورعونة دون نفع من حوار؛ (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 66].
ضوابط ومعايير
تتسع صور الحرية في القرآن الكريم مما لا يستوعبها هذا المقال؛ لكنها على خلاف مع المواثيق والإعلانات المعاصرة في أن لها ضوابط ومعايير لا يجب الخروج عليها؛ فإذا كانت الحرية حقًّا للإنسان فوجب على المسلم صوْنها ورعايتها، وأيضًا عدم التفريط فيها وإلا ظلم نفسه؛ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 97]، كما لا يجوز إساءة استعمالها، أو تخطي حدودها، أو إلباسها لباس الباطل للتعدي على حقوق الآخرين، ومن ضوابطها اقترانها بالمسؤولية، وإلا عُدّ انفصامًا وشذوذًا؛ (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [الإنسان: 14، 15]، ومعلوم أنها تقتضي احترام الاختلاف في الرأي وفي العقيدة مما رتبه الله لهذا الكون؛ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود: 118].