إن تقليد ومحاكاة الآخرين من الأمور المغروزة في الإنسان؛ فتجد الطفل الصغير يحاكي حركات أبيه وأمه وأفعالهم؛ كأنه مرآة صافية تنعكس عليها أفعال الآخرين.
وكلما كبر الإنسان توسَّعت دائرة من يقلدهم؛ فيخرج عن الدائرة الضيقة التي كان يحاكيها من الآباء والأقرباء والجيران، ويقتدي الإنسان بمن سبقه ثقة منه فيهم لنجاح تجاربهم، أو رضا بصنيعهم، أو لتأكده ويقينه بأنهم أقرب إلى الكمال البشري، أو تحققت فيهم بالفعل المثالية، أو أنه طُلب منه ذلك من عالِم الغيب والشهادة: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ {89} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21)، (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة: 4).
أو رغبة في عدم الخروج من دائرة أفعالهم؛ (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ) (الزخرف).
والقدوات هم الذين نرى فيهم تحقُّق آمالنا وأحلامنا، وأن ما نتمناه ونتغياه ليست أوهاماً، بل هناك من حققها على أرض الواقع، والبشر متفاوتون في مواهبهم وقدراتهم؛ ففيهم صاحب الهمة العالية والعزم القوي.. إلخ، وهم القليل، وفيهم ضعيف العزم خسيس الهمة.. إلخ.
وقد أظهر الله تعالى ميزات هؤلاء الروحية والنفسية والعقلية والبدنية ليعلم باقي البشر أن الوصول إلى درجة هؤلاء أو الاقتراب من درجتهم مقدور لمن بذل المجهود، وليس كل البشر يحبون أن يكونوا رؤوساً أسياداً أعلاماً، بل غالبهم يحبون أن يكونوا أتباعاً يسيرون على نهج قائدهم، وينفذون رؤيته.
والطفل حينما كان يحاكي أبويه كان يفعلها بطريقة عفوية تخلو تقريباً من الوعي، لكن الشاب حينما يختار قدوته فإنه يكون على وعي بما يفعل؛ إذ يكون قد حدد هدفه، ويبحث بعدها عمن وجد أن هدفه قد تحقق فيه.
القدوات هم الذين نرى فيهم تحقُّق أحلامنا وأن ما نتمناه ليست أوهاماً بل هناك من حققها على أرض الواقع
فهو إن كان يبحث عن الدين والأخلاق والعلم فإنه يبحث عن الرموز المبرزين في تلك الجوانب، وإن كان يبحث عن الغنى فإنه يبحث عن الأغنياء الذين انفتحت عليهم الدنيا وملكوها، وإن كان يبحث عن الشهرة فإنه ينظر ويفتش عمن طار ذكرهم في العالمين.. إلخ.
وكل هدف يسعى صاحبه لتحقيقه له طريقان؛ طريق مشروع، وآخر غير مشروع؛ فمثلاً الباحث عن الغنى قد لا يهمه إن اكتسب ماله من حرام؛ فالعبرة عنده أن يكون غنياً، ويستعين على ذلك بقدوات سبقوه في ذلك المسلك، وهناك من يطلب الغنى ويجدُّ في ذلك، لكنه يتحرى الحلال، ويتشرف للقدوات الذين بلغوا ما أرادوا عن طريق الكد والكفاح وطلب الحلال.
وهذا يعني أن القدوات الحسنة لها نماذج موجودة، وكذلك القدوات السيئة، وما على المرء إلا أن يختار قدوته، قال تعالى مبيناً النموذجين؛ فقال عن إبراهيم وذريته: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73)، وقال عن فرعون وفريقه: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ) (القصص: 41).
والشباب أثناء محاولتهم تحديد أهدافهم قد يتخبطون في اختيار قدواتهم؛ فلا يحسنون الاختيار؛ فيسيرون في طريق ويقطعون فيها أشواطاً، لكنهم قد يكتشفون أنهم لم يتخذوا القدوات المناسبة، والطامة الكبرى فيمن يطلب الدين عند غير أهله من أهل البدع والشُّبَه الذين يلبسون مسوح الدعاة والمصلحين، وهم المفسدون حقاً؛ فبعض الشباب رغبة منه في التدين قد يقع في براثن المتشددين أو المتسيبين، أو المأجورين لإفساد الناس باسم الدين.
فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يكون دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم قوم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا»(1)، هذا إن كان الاختيار متاحاً للشباب في اختيار القدوات، لكنه في بعض الأزمان والظروف يتم حجب بعض القدوات وإبراز آخرين.
والقدوات نوعان: تاريخية، وآنية حينية؛ بمعنى أن الشباب عندهم المجال الواسع في اختيار القدوات؛ فهناك السابقون المتوفون عبر الأزمان، الذين بُتَّ في أمرهم وعُلم حالهم أَهُمْ من القدوات الحسنة أم السيئة، وهناك القدوات الأحياء الذين يعيشون بيننا، الذين قد نخدع في مظاهرهم، ونظن أنهم من القدوات الحسنة، لكن الزمن قد يظهر عكس ذلك، وفي هذا السياق يُفهم معنى قول عبدالله بن عمر: «من كان مستنًّا فليستنَّ بمن قد مات»(2)، وعلل ابن مسعود ذلك بقوله: «فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة»(3).
القدوات الحسنة التاريخية وإن غابوا فإنهم لا يمكن تغييبهم فسِيَرهم وأعمالهم باقية إلى قيام الساعة
والقدوات الحسنة التاريخية وإن غابوا فإنهم لا يمكن تغييبهم أو طمسهم؛ فسِيَرهم وأعمالهم في الكتب السماوية والأثرية وذكرهم باق لقيام الساعة كما قال تعالى: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (الصافات: 78) عن بعض الأنبياء، ومعنى الآية: «تركنا عليه ثناء حسناً في كل أمة؛ فإنه محبب إلى الجميع»(4).
والإشكال يكمن في القدوات الحينية الذين هم على قيد الحياة الذين يمكن تغييبهم إذا حدث خلاف بينهم وبين المتنفذين في مجتمعهم، أو النظام السياسي نفسه المتحكم في الدولة.
ففي أوقات الأزمات السياسية قد تضيق الأنظمة بالمخالفين لها في الرؤية فتعمل على التخلص منهم وتغييبهم من خلال تشويههم والهجوم الدائم عليهم، أو بفصلهم من أعمالهم؛ حتى لا تكون لهم كلمة مسموعة، أو بوضعهم تحت الإقامة الجبرية، أو بالاعتقال، أو بمنعهم من الظهور على وسائل الإعلام المرئية أو المقروءة من خلال المحاضرات أو المقالات، وإفساح المجال لغيرهم ممن لا يمثلون أي خطر على الدولة ومشروعها، ويكونون أداة لإلهاء الشعوب عن القضايا الكبرى المصيرية، ويتم إغداق الأموال عليهم؛ لأنهم يمثلون أبواقاً للأنظمة، وهؤلاء قد يكونون من الواقعين تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه حذيفة بن اليمان: «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لُكَعُ ابن لُكَع»(5).
والقدوات الحسنة لا ينقطعون على مر الزمان من أول الخليقة، قد يقلون أو يكثرون، لكنه في آخر الزمان لا يبقى للناس إلا القدوات التاريخية؛ إذ إن القدوات الحينية يقلون حتى إنهم يندرون، بل حتى إنهم ينتهون؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعاً، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِماً، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»(6).
وعليه، فمهما حاول البعض تغييب القدوات فإنهم قد يقدرون على الأحياء منهم، لكنهم لن يتمكنوا من تغييب الأموات منهم، فباب القدوة مفتوح إلى آخر الزمان؛ ومن هنا كان السر في حياة هذه الأمة وعدم موتها، ونهضتها من بين ركام المصائب والأهوال.
________________________
(1) أخرجه ابن ماجه في الفتن، باب: العزلة، ح(3979)، وقد صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
(2) حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 305).
(3) السنن الكبرى للبيهقي (10/ 116).
(4) تفسير القرطبي (15/ 90).
(5) أخرجه الترمذي في الفتن، ح(2209)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
(6) أخرجه البخاري في العلم، باب: كَيْفَ يُقْبَضُ الْعِلْمُ.. ح(100).