ليس من شك في أن بناء الهوية وتشكلها خاصة لدى فئة الشباب أحد أهم الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها أي أمة من الأمم، فالشباب هم المحرك الفعلي للتطور والابتكار، وهم العنصر الفعال والقوي والمؤثر في أي مجتمع من المجتمعات؛ ومن ثم فالحرص كل الحرص على ألا تقع هذه الفئة فيما يسمى بـ«أزمة الهوية»، كون أن ذلك يشكل خطراً كبيراً على حاضر أي أمة فضلاً عن مستقبلها.
إن ما ترسخ في المحصلة النهائية لدى الوعي الجمعي حول الهوية هو أنها مجمل السمات التي تميز شيئاً عن غيره أو شخصاً عن غيره أو مجموعة عن غيرها، وأنها تحمل عناصر يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة، وبعضها الآخر في مرحلة أخرى، ومنها مثلاً الهوية الشخصية المتعلقة بتاريخ الميلاد والاسم والعمر والجنسية والشكل والصفات الخلقية، ومنها أيضاً الهوية المهنية والهوية الدينية والأيديولوجية والهوية العرقية.
عوامل التشكل
ثمة عديد من العوامل التي تساهم في تشكيل الهوية الشخصية والجماعية، ومنها عوامل خارجية وأخرى داخلية، التي يبرز منها المجتمع والأسرة والأصدقاء والموقع الجغرافي ووسائل الإعلام والأحداث الجارية والدين والتاريخ المشترك والعادات والتقاليد واللغة والفن والأدب والنظام السياسي والاقتصادي المتبع والطبقات الاجتماعية والانتماء العرقي والحروب والكوارث الطبيعية والعلاقات الدولية والهجرة ونظام التعليم، وما يفكر فيه الناس كأفراد لا يتأثرون بالمحفزات الخارجية؛ كالتعبير عن الذات والخبرات والتصورات الخاصة والذكريات والمواقف.
والثابت أن جميع هذه العوامل تعمل على نمو الإحساس لدى كل من الشخص أو الجماعة بمفهوم الذات والتعرف على ماهيتها وما تريده وإلى أين تتجه؟ ومن ثم فإذا كان لدى الفرد أو الجماعة شعور قوي بالهوية، فسيرى كل منهما نفسه صاحب هوية فريدة متكاملة، الأمر الذي يدفع كل منهما للتمسك بها والدفاع عنها، فيما أن العكس يعني تهاوي هذه الهوية بسهولة.
العولمة والهوية
بعيداً عن الجدل الذي دار لمدة زمنية بين المفكرين والاقتصاديين حول الأصول التاريخية للعولمة، إلا أنه كان من أهم شواهدها في العصر الحديث ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، انفتاح شعوب العالم اقتصادياً وثقافياً بعضها على البعض، وهو الانفتاح الذي ساهمت فيه بقوة ثورة الاتصالات التي جعلت العالم بالفعل وكأنه قرية صغيرة، ما أفرز على المستوى الفكري والثقافي حالة جديدة لم يسبق أن واجهتها المجتمعات والأمم بنفس الزخم والقوة تمثلت في ذوبان الخصوصية إذ العلاقة بين العولمة والهوية علاقة صراع وصدام وذلك لاختلاف طبيعة كل منهما.
ولعل أهم مظاهر هذا الصدام تتجسد في أن العولمة تعمل على بناء ثقافة واحدة وإذابة الجدر الأيديولوجية والاقتصادية وحتى الثقافية للجنسيات والقوميات والثقافات المختلفة من خلال وسائلها النافذة؛ كالإنترنت والفضائيات التلفزيونية؛ وهو ما يدفع البعض إلى القول: إن العولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتجهز عليها.
صراع الهويات
لا يعني ما سبق أن العولمة تمتلك بندقية تطلق منها الرصاص على الهوية -أية هوية- فتميتها في الحال، وإلا كان الأمر سهلا بشأن تحقيق أهدافها، وهو ما لم يحدث، ولكنها في الوقت ذاته بجانب العديد من العوامل التي أشرنا لبعضها سابقاً أوجدت ما يمكن أن نطلق عليه «صراع الهويات»، وهو الحالة التي تنمو داخل الفرد أو المجتمع عندما يواجه هوية أخرى أو أكثر تتناقض مع هويته بمكوناتها المتعددة.
ولا شك أنه لا يمكن عقد مقارنة حول تحدي صراع الهويات بين أجيال القرون السابقة والأجيال الحالية، فالبون شاسع لاعتبارات عديدة أبرزها حجم التداخل والتواصل بين الأمم والشعوب، فيما يصبح هذا التحدي نسبياً أيضاً بين الشباب ومن تجاوزوا مرحلة الشباب الذين يمكن أن نقول: إنهم عبروا إلى حد كبير خطر هذه المرحلة ومعاناة التحدي.
في هذا الصدد، فإن الخطر الحقيقي الناشئ عن صراع الهويات يتهدد بالدرجة الأولى فئة الشباب، الذين يتأثرون إلى أقصى حد بالعولمة ووسائلها، التي تقدم لهم نماذج مجتمعية تتبني هوية وثقافة مغايرة لهويتهم وثقافتهم، وقد حققت الكثير من النجاحات على المستوى المادي والعلمي في مقابل إخفاقات منيت بها المجتمعات التي ينتمي إليها هؤلاء الشباب، وهو ما يولِّد قلقاً وتوتراً داخلياً بين هويتهم الذاتية والجماعية من ناحية، وبقية الهويات من ناحية أخرى.
وتأتي الهجرة أيضاً كواحدة من أهم ساحات تحدي «صراع الهويات»، فانتقال الشاب من مجتمع ذي هوية محددة إلى مجتمع آخر بهوية مناقضة على مستوى اللغة والدين والأخلاق والثقافة وما إلى غير ذلك، يعني ضرورة امتلاك الشاب القدرة على التكيف مع هذا المجتمع الجديد مع الحفاظ على الهوية الأصلية، وهو ما يستلزم جهداً ومصابرة دائمين لا يمكن أن يتحلى بهما كل المهاجرين من الشباب.
والحقيقة أنه ليست العولمة أو الهجرة وحدهما عاملي نشأة «صراع الهويات»، فالأحوال السياسية والتغيرات الاجتماعية، بل والصراعات الأهلية والكوارث الطبيعية أيضاً تؤدي إلى حدوث «صراع الهويات»، حيث التساؤلات الحائرة التي تظل تبحث عن إجابة تصل بالبعض وبكل أسف إلى القفز من سفينة الهوية.
الآثار والعلاج
ولصراع الهويات لدى الشباب مظاهره وآثاره الخطيرة، ومنها الانبهار بالغرب ومناهجه وأفكاره والتقليد الأعمى له من حيث الملبس والمأكل وحتى مواصفات الجمال والاستغراق في بناء الأجسام، فضلاً عن شيوع النمط الاستهلاكي الذي يروج له الغرب، ومن ثم الشعور بالضياع والدونية والانهزامية وعدم الثقة في النفس، وهي بعض من المظاهر التي دفعت الكثيرين إلى إهمال تعلم اللغة العربية والمعرفة الدينية والانغماس في متابعة كل ما هو غربي؛ كالأفلام السينمائية والروايات الأدبية؛ ما يكون نتيجته النهائية انفصالاً عن الهوية الأصلية ربما يتطور ليضحى تمرداً عليها.
والمعالجة للآثار المترتبة على «صراع الهويات» تستلزم جهوداً مضنية على عدة مستويات، منها ما يتعلق بدور المؤسسات التعليمية والتربوية والدينية والإعلامية، ومنها ما يتعلق بالأنظمة السياسية، فضلاً عن دور كل من الأسرة والمجتمع؛ إذ وجب على كل هذه الجهات أن تتشارك في الاعتناء بالتنشئة الاجتماعية والعمل على أن تتكون خلالها الهوية بشكل راسخ وعميق، يدعمها الشعور بعلو المكانة واستحضار الدور التاريخي الرائد فكرياً وعلمياً للأمة، مع أهمية التمييز بين الإخفاق المادي والسياسي الذي تعيشه الأمة، وهويتها الدينية والفكرية والثقافية، والتأكيد على أنه نتيجة لأسباب خارجية كأحد أساليب تحصين هذه الهوية.