شكلت معركة «طوفان الأقصى» أبرز ما قامت به المقاومة الفلسطينية في عام 2023م، وقد حققت هذه العملية ضربةً لنظرية الردع «الإسرائيلية»؛ إذ ضربت كل سياسات الاحتلال، واستطاعت أن تربك المستويات الأمنية والسياسية لدى الاحتلال، وما زال صمود المقاومة في قطاع عقبة كأداء أمام مشاريع الاحتلال للسيطرة المطلقة على القطاع.
ومع مضي عام على انطلاق هذه المعركة، وحالة الخذلان المحيطة بفلسطين، التي لم تستطع وقف العدوان، بل سمحت له بالاستمرار، تظل القدس المحتلة ومسجدها الأقصى المبارك الحاضر الغائب في هذه المعادلة الصعبة، فالمعركة التي شكل «الأقصى» عنوانها المركزيّ، يسعى الاحتلال إلى حسم قضيته، إلى جانب تصاعد العدوان في مختلف جبهات تهويد القدس واستهداف سكانها، فأين أصبح مشروع التهويد بعد عام من معركة «طوفان الأقصى»؟
«الأقصى» من تصاعد الاقتحامات إلى الدعوة لبناء «كنيس»
في الأشهر التي تلت بداية العدوان على قطاع غزة، فرضت قوات الاحتلال إجراءات مشددة أمام أبواب المسجد الأقصى، وفي أزقة البلدة القديمة؛ وهو ما انعكس على أعداد المصلين في «الأقصى»، وقد وصفت مصادر مقدسية بأن المسجد شبه فارغ في العديد من أشهر الرصد، بسبب تضييقات الاحتلال، التي شملت قيودًا عمرية مختلفة أمام أبواب المسجد، وأمام أبواب البلدة القديمة وفي أزقتها، وانسحب تراجع أعداد المصلين في «الأقصى» على يوم الجمعة أيضًا، الذي شهد تشديدًا في تنفيذ هذه القيود، فتراجع أعداد المصلين من متوسط 50 ألف مصل في الجمع الاعتيادية، إلى نحو 5 آلاف مصل بعد انطلاق العدوان، ووصل في 10/ 11/ 2023م إلى 4 آلاف مصلٍ، وفي 1/ 12/ 2023م إلى نحو 3500 مصلٍ فقط.
ومع اقتراب شهر رمضان، عادت أعداد المصلين بالارتفاع يوم الجمعة بشكلٍ تدريجيّ، خشية الاحتلال من تفجر الأوضاع في المدينة المحتلة، وتتراوح أعداد المصلين في «الأقصى» ما بين 30 ألفاً و50 ألف مصل، وهو أقل من متوسط أعداد المصلين الذي كان يصل إلى نحو 70 ألف مصل.
وقد أدت إجراءات الاحتلال إلى تسجيل أعداد كبيرة من مقتحمي «الأقصى» منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، في سياق تأكيد أذرع الاحتلال بأنها لم تنكسر وقادرة على تجاوز عملية «طوفان الأقصى»؛ وهو ما تجلى في دعوات اقتحام ذكرى «خراب المعبد»، فقد دعت المنظمات المتطرفة أنصارها للمشاركة في اقتحام المسجد، مستخدمةً شعار «طوفان جبل المعبد»، وكشفت هذه التسمية حالة الغيظ التي تسود أذرع الاحتلال المتطرفة، ومحاولتها تجاوز ما حققته «طوفان الأقصى».
وقد استطاعت هذه المنظمات حشد نحو 2958 مستوطنًا في 13/ 8/ 2024م، شاركوا في اقتحام «الأقصى» في هذه الذكرى، وبلغت أعداد المقتحمين ما بين 1/ 10/ 2023 و1/ 10/ 2024م نحو 54949 من المستوطنين والطلاب اليهود وعناصر الاحتلال الأمنية.
وأمام حالة التصاعد في العدوان التي شهدها «الأقصى» منذ عيد «الفصح العبري» في أبريل 2024م، وصولًا إلى ذكرى «خراب المعبد» في أغسطس 2024م، وموسم الأعياد اليهوديّة الحالي، بدأت «الصهيونية الدينية» بالمضي قدمًا نحو حسم هوية «الأقصى».
فقد أعلن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير نيته بناء كنيس في «الأقصى»، ومن ثم قام بتعيين قائد جديد للشرطة في القدس المحتلة منسجمٍ مع «منظمات المعبد»، وهو أحد الذين أشرفوا على تطور أدائها الطقوس العلنية في المسجد، وهي طقوس أصبحت أمرًا واقعًا في «الأقصى»، يؤديها المقتحمون يوميًا بشكلٍ جماعيّ، وتتم بحماية شرطة الاحتلال وإشراف حاخاماتهم.
أرقام غير مسبوقة للاستيطان في القدس المحتلة
تتقن سلطات الاحتلال الاستفادة من إشعالها الجبهات المختلفة، فمع أي عدوان تشنه تعمل أذرعها على الاستفادة من انزياح التغطية الإخبارية والاهتمام العالمي لتمضي قدمًا في مشاريعها، ومع ارتكاب الاحتلال مجازر فظيعة في قطاع غزة، صعد من إقرار المشاريع الاستيطانية في القدس المحتلة، ففي أبريل الماضي، كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية بأن سلطات الاحتلال قامت بتسريع بناء المستوطنات في الشطر الشرقي من القدس المحتلة، وبحسب الصحيفة وافقت أذرع الاحتلال واستكملت البناء في أكثر من 20 مشروعًا استيطانيًا تضم آلاف الوحدات الاستيطانية.
ومما يؤكد المعطيات السابقة، ما نشرته عددٌ من المؤسسات الحقوقية «الإسرائيلية» تحت عنوان «القدس الشرقية في ظل الحرب»، وأشار التقرير إلى ترويج الاحتلال لخطط توسيع وإنشاء مستوطنات جديدة في الشطر الشرقي من القدس المحتلة خلال أشهر العدوان على غزة، وبحسب التقرير تضمنت هذه المشاريع الجديدة بناء نحو 7 آلاف وحدة استيطانية.
أما هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية فقد أشارت إلى أن الجهات التخطيطية التابعة للاحتلال درست نحو 50 مخططًا توسعيًا لمستوطنات في المدينة المحتلة، منذ بداية عام 2024م، تتضمن هذه الخطط بناء نحو 6723 وحدة استيطانية، ستلتهم من خلالها سلطات الاحتلال نحو 2100 دونم من أراضي القدس.
وتؤكد مختلف هذه التقارير إلى أن أجهزة الاحتلال التنظيمية والتخطيطية تسرّع عملية التخطيط، وإقرار المستوطنات الجديدة، أو توسعة المستوطنات القائمة، إلى جانب تسريع طرح المناقصات للشروع في بنائها، وهو ما سيرفع أعداد الوحدات الاستيطانية بشكلٍ غير مسبوق.
تلاعب في ديموغرافيا القدس
لا يقف التلاعب الديموغرافي حول البناء الاستيطاني وما يتصل به من رفع أعداد المستوطنين في المدينة، إذ تتصل هذه السياسة بمحاولات تقليل أعداد الفلسطينيين، وطردهم خارج القدس المحتلة، من خلال حرمانهم من السكن عبر الهدم والاستيلاء وغيرها، فبحسب معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، هدمت سطات الاحتلال ما بين 7/ 10/ 2024 و7/ 10/ 2024م نحو 182 منزلًا ومنشأة في القدس المحتلة، وهذا ما أدى إلى تهجير نحو 518 فلسطينياً، وتضرر مئات آخرين، إلى جانب تنفيذ 5 عمليات هدم عقابي (تُشير إلى هدم منازل منفذي العمليات الفردية) في القدس المحتلة في الأشهر الماضية من عام 2024م، وأدت إلى تهجير 28 فلسطينيًا.
أخيرًا، لا يتسع مقال واحدٌ للإحاطة بكل ما قامت به أذرع الاحتلال منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، إذ تعمل على تسعير كل جبهات التهويد في القدس المحتلة، على غرار ما تقوم به من عدوان على جبهات عديدة في غزة والضفة ولبنان، وهو ما يُشير إشارة واضحة إلى أن الاحتلال ماضٍ قدمًا في إستراتيجياته الرامية إلى تحقيق النصر في كل ميدان يعمل فيه، ابتداءً بحسم هوية القدس، وليس انتهاء بالحروب المختلفة التي يشنها؛ ما يعيد التأكيد مجددًا على أهمية الفعل المقاوم، وأن «طوفان الأقصى» كشفت من جهة هذه المخططات الصهيونية، ومن جهة أخرى رسم طريق مواجهتها والتصدي لها.
_______________________
1- هشام يعقوب (محرر) وآخرون، عين على الأقصى 18 – الملخص التنفيذي، مؤسسة القدس الدولية، بيروت، 2024.
2- القدس البوصلة، التقرير الشهري: https://tinyurl.com/mt3ukhnm.
3- الميادين، 17/4/2024. https://tinyurl.com/mryhrzv9.
4- الجزيرة نت، 3/5/2024. https://tinyurl.com/4y3d35b9.
5- الجزيرة نت، 26/8/2024. https://tinyurl.com/yn6rtpxc.
6- الجزيرة نت، 30/9/2024. https://tinyurl.com/yx64rrbn.
7- أوتشا، خريطة معطيات تفاعلية https://bit.ly/3rtHaC2.
8- بتسليم، عمليات الهدم كوسيلة للعقاب. https://bit.ly/3JmdkcG.