من العوائق التي تقف في طريق السائرين إلى الله تعالى الإسراف؛ وهو مرض يتسبب في قعود صاحبه ويمنعه من متابعة سيره إلى الله تعالى.
والإسراف في اللغة يطلق على ما أنفق في غير طاعة، كما يطلق على التبذير ومجاوزة الحد(1).
أما الإسراف عند علماء التربية، فيراد به مجاوزة حد الاعتدال في الطعام والشراب والملبس والمسكن والمركب ونحو ذلك من الغرائز الكامنة في النفس البشرية، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31).
عاقبة الإسراف
لا يخفى على كل لبيب عاقبة الإسراف المهلكة سواء على الفرد أو على المجتمع، فعلى مستوى الفرد فالإسراف يتسبب في علة البدن، وقسوة القلب، وخمول الفكر، وتحريك دواعي الشر والإثم، والانهيار في ساعات المحن والشدائد، وعلى مستوى المجتمع فإن عاقبة الإسراف هي سهولة القضاء عليه، والوقوع تحت طائلة قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16).
أسباب الإسراف
وللإسراف أسباب نوجزها فيما يلي:
– النشأة الأولى:
حيث إن المسلم عندما ينشأ في أسرة اتخذت الإسراف والبذخ شعاراً لها، فإنه يسير على نهجهم ويقتدي بهم، ورحم الله من قال:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ
وَما دانَ الفَتى بِحِجىً وَلَكِن يُعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ(2)
ولعلنا بهذا ندرك شيئاً من أسرار قوله تعالى: (وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (البقرة: 221)، حيث حرص الإسلام على بناء الأسرة التي تقام على زوجين مؤمنين يتقيان الله تعالى في أفعالهما ويتخذان الإسلام منهجاً للحياة.
– السعة بعد الضيق:
قد يعيش البعض في ضيق أو حرمان أو شدة أو عسر فيصبر ويحتسب وهو ماضٍ في طريقه إلى الله تعالى، وقد تتغير الأحوال فتكون السعة بعد الضيق وحينئذ يصعب على هذا البعض التوسط والاعتدال فينقلب على النقيض تماماً فيكون الإسراف أو التبذير، ولهذا حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من هذا العائق.
روى البخاري بسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أهل البحرين وأَمَّرَ عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فَوَافَوْا صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء!» قالوا: أجل يا رسول الله، قال: «فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» (البخاري، 4015).
– الغفلة عن زاد الطريق:
قد يكون السبب في الإسراف الغفلة عن زاد الطريق، حيث إن الطريق إلى الله تعالى ليس مفروشًا بالحرير، بل بالأشواك والدموع والعرق، والسير على هذا الطريق لا يكون بالترف والنعومة والاسترخاء، وإنما بالرجولة والهمة العالية.
هذا هو زاد الطريق والغفلة عن هذا الزاد توقع المسلم في الإسراف، ولعلنا بذلك ندرك سر قوله تعالى عن طبيعة هذا الطريق، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 142).
– عدم فِطَام النفس:
فِطَام النفس عن الشهوات هو الطريق الأمثل لإلزامها الانضباط في السير إلى الله تعالى، فمن طبيعة النفس البشرية أنها تنقاد وتخضع ويسلس قيادها بالشدة والحزم، وتتمرد وتتطلع إلى الشهوات وتلح في الانغماس فيها بالتهاون واللين، ولعلنا بذلك نفهم سر قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11)، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69).
فَاصْرِفْ هَوَاهَا وَحَاذِرْ أنْ تُوَلِّيَــهُ إِنَّ الهَوَى مَا تَوَلَّى يُصْمِ أو يَصِـمِ
وَرَاعِهَا وَهْيَ فِيْ الأعْمَالِ سَــائِمَةٌ وَإنْ هِيَ اسْتَحَلْتِ الْمَرْعَى فَلا تُسِمِ
كَمْ حَسنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاْتِلَــةً مِـنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أنَّ السُّمَّ فِي الدَّسَـمِ(3)
– الغفلة عن شدائد يوم القيامة:
من غفل عن شدائد يوم القيامة يُصاب بالإسراف والترف، بل ربما يُصاب بما هو أبعد من ذلك، وعدم الغفلة عن ذلك تجعل المسلم يقضي حياته غير ناعم بشيء في هذه الحياة الدنيا، ولعلنا بهذا ندرك شيئاً من أسرار قوله صلى الله عليه وسلم: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أَطَتِ السماء وحق لها أن تَئِطُّ ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله» (أخرجه الترمذي).
علاج الإسراف
يكمن علاج الإسراف فيما يلي:
1- تذكر العواقب السيئة المترتبة على الإسراف، فإن ذلك من شأنه أن يحمل المسلم على عدم الوقوع في الإسراف.
2- التعامل مع النفس بحزم؛ وذلك بفطمها عن شهواتها ومطالبها غير المبررة، وحملها على الأخذ بكل ما يبعدها عن الإسراف.
3- دوام النظر في السيرة النبوية، حيث إنها مليئة بالمواقف التي تدعو إلى مجاهدة النفس والعيش على الخشونة والتقشف، وكذلك دوام النظر في سيرة سلف هذه الأمة، من الصحابة المجاهدين والعلماء العاملين.
قال جابر بن عبد اللّه: رأى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه في يدي لحمًا معلّقًا، قال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا، فاشتريته، فقال عمر: كلّما اشتهيت اشتريت، أما تخاف هذه الآية: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا)(4).
4- دوام التفكر في الموت، وما بعده من شدائد وأهوال، فإن ذلك أيضاً يعين على نبذ كل مظاهر الإسراف والترف، ويحول دون الوقوع فيها مرة أخرى استعداداً لساعة الرحيل ويوم اللقاء.
5- تذكر طبيعة الطريق، وما فيه من متاعب وآلام، وأن زاده لا يكون بالإسراف والاسترخاء والترف، بل بالخشونة والحزم والتقشف، فإن ذلك له دور كبير في علاج الإسراف ومجاهدة النفس والقدرة على اجتياز وتخطى المعوقات والعقبات(5).
_________________________
(1) القاموس المحيط (3/ 156)، المعجم الوسيط (1/ 427)، الصحاح في اللغة والعلوم، ص 474، مادة «سرف».
(2) من ديوان أبو العلاء المعري «قد اختل الأنام بغير شك».
(3) من قصيدة البردة، الإمام البوصيري، في التحذير من هوى النفس.
(4) الآداب الشرعية والمنح المرعية، محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج (3/ 341).
(5) آفات على الطريق، د. السيد محمد نوح.