مصطلحات شائعة
وتشيع في أرجاء الرواية بعض المصطلحات العامية أو الشائعة في الأوساط الشعبية، قد لا يدركها القراء المعاصرون من الشباب، مثل: “زفارة لسانه أشبه بجواليص الطين في تعامله مع الأقباط بوجه خاص”، لفظة جواليص لا يعرفها إلا الفلاحون، وليست شائعة في زماننا، ولكن السارد أراد أن يصور بذاءة عبد العظيم عتمان ضد إخوتنا الأقباط أهل السماحة والمحبة! (الرواية، ص 23).
ويستخدم السارد مصطلح “العضمة الزرقاء” وخبث أهلها إشارة إلى النصارى، و”الناب الأزرق” تعبيرا عن الشراسة والاحتيال إشارة إلى خبث عبد العظيم أو المسلمين (الرواية ، ص27، 193) والمصطلحان غالبا ما يأتيان في سياق المزاح بين المصريين وخاصة الطبقات الشعبية، ولكن السارد فيما يبدو يريد أن ينقل صورة عميقة لما يجري في أعماق الريف المصري، ولكنه لم يشر إلى أن مزاح الفلاحين وأشباهم في القرية المصرية لا يأخذ هذه المصطلحات على محمل العداء والخصومة، بل يضعها في سياق المزاح العام الذي يشتهر به المصريون، وقد رأيت كيف يمزح المسلمون والنصارى في المنطقة الريفية التي أعيش بها حتى ساعة كتابة هذه السطور منذ ما يقرب من ثمانين عاما.
مصطلح قرآني
كذلك يأتي مصطلح “هلاك” دلالة على موت النصارى، ” منذ هلاك محفوظ ابن إسطاسية” (الرواية، ص53)، وقد يراه البعض نوعا من انتقاص الطائفة، ولكنه مصطلح قرآني عبر به القرآن الكريم عن موت المسلمين “يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ۚ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ۚ ..”(النساء: 176) وتعبيرا عن موت الأنبياء مثل الحديث عن موت نبي الله يوسف عليه السلام: “وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا ۚ .. ” (غافر، ص 34) وإشارة إلى مصير أقوام سابقين: ” فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ. وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (الحاقة:5، 6)، علما أن الكنيسة تسمى الميت بالمتنيّح.
ويستخدم السرد مصطلح (قيم مصرية) بدلا من قيم إسلامية، وكأن الإشارة إلى شيء فيه إسلام يخجل صاحبه المسلم. إن مصر تعيش بقيم الإسلام فيما يفترض، وهي قيم عليا في إنسانيتها وعدالتها ورحمتها بالضعفاء والمظلومين.
تعبيرات عصرية
ويطالعنا السرد ببعض المصطلحات والتعبيرات العصرية المستقاة من لغة الصحافة والدعاية الإعلامية مثل: “الضمير المطاط” الذي عبر به المحامي الكبير عبد الودود القصبي حين أعلن لابن أخته أنه لن يستطيع أن يدافع عن عميه بسبب سوء سلوكهما وجرائمهما، فلن يجد الحافز ولا الضمير المطاط، فهما مجرمان عتيدان تخمرت فيهما روح الصحراء الغدارة القاسية.. (الرواية، ص 229)،
وهناك مصطلحات أو تعبيرات عصرية مأخوذة من عالم السياسة مثل السيدة الأولى( زوج رئيس الدولة) فقد استخدم حمزة هذا التعبير للدلالة على منزلة والدته في بيت البراوي بعد زواجها من والده، فقد أصبحت سيدة الدار، و”باتت السيدة الأولى في بلدتنا كذلك” (الرواية، ص 17)، وهناك تعبير أدبي أو نقدي استخدمه السرد لوصف هذه المرأة (أم حمزة) وهو صناعة يبدو فيها صوت المؤلف يقظا وحاضرا ، حيث يصفها بالمنتوج الثقافي الإنساني من خلطة مصرية فريدة مكونة من ثقافة الوالد الشيخ (المستنير) ابن مدرسة الإمام محمد عبده، وثقافة خاله عبد الودود المحامي الكبير الذي كان يمليها مذكراته القانونية (الرواية، ص 105)، وكذلك يستخدم السرد مصطلح “هارمونية الألوان” أطلقه خاله عبد الودود عندما لاحظ اهتمامه بملابسه وارتقى بذوقه في اختيار أربطة العنق وأنواع القمصان والأحذية، ولا أظن الرجل يعي مفهوم المصطلح أو موضعه (الرواية، ص 169).
التصوير
يجتهد السرد في تقديم أفكار الرواية من خلال تصوير بعض الجزئيات أو المشاهد، عبر ذهن يقظ في الغالب بعيدا عن العفوية والتلقائية، كأن يصور المصلين في المسجد مثلا وهم يتابعون الشيخ حامد البراوي وهو على المنبر، فيشبههم بالتماثيل، ولكنه يصف التماثيل بالقطط الفرعونية المقعية المتجمدة الشاخصة إلى المنبر، وهذه الصورة يتضح فيها كد الذهن وإعمال العقل ربما لإحساس السارد أنها غير مقنعة للقارئ، “رءوس المصلين صفوف متراكمة كتماثيل لقطط فرعونية مقعية متجمدة شاخصة إلى المنبر”، أظن كلما كانت الصورة عفوية وقريبة من القارئ كان تأثيرها أفضل، وتوصيلها للمعني أسرع. (الرواية، 34).
مشهد روائي
في الخطبة المنبرية الحمقاء كما يصفها السرد، يقدم عابد البراوي مشهدا روائيا وهو يصف علاقة السطح في بيت إسطاسية بسطوح منية المرشد: “فإذا كان سطح إسطاسية فوق صخور عزبة الحجر هو الشاطئ العالي وبلدتنا في السفح السحيق هي البحر بغير ماء فإن الريح تتبختر قادمة من الجهة البحرية وتقف على سطح إسطاسية تأخذ الجمرات ثم تلقي بنفسها غاطسة ثم توزع قذائف النار على دورنا وهي كما تعرفون مغطاة بأكوام الحطب والقش. هل استطعت يا إخواني أن أقرب الصورة لخيالكم؟”، يريد عابد أن يبين أن إسطاسية بحزنها ونواحها يمكن أن تحرق البلد وخاصة أن صوتها الصارخ يعم البلدة كلها ويصل إلى داره وهو ما ينبغي أن يتوقف، فشبه الصوت بالحريق الذي لا يتوقف في موضع ولكنه يهبط إلى كل المواضع، وقد يكون هذا التصوير مقبولا فنيا، ولكنه يعاني من الكد الذهني وإعمال العقل حتى وصل إلى هذه الصورة (الرواية، ص53- 54).
وجعني قلبي
وتبدو الصورة أحيانا قريبة وطريفة ومعبرة عن الحالة التي يتغيّاها السرد، فها هو عبد العظيم عتمان يذكر إسطاسية بمروءته يوم أنقذ ابنها من الغرق “وجعني قلبي يا إسطاسية من منظرك ورأس ابنك مثل فلة السنارة تغطس وتقبّ، فرميت سكاكيني وخلعت ملابسي، ورميت نفسي في قلب الترعة قبل أن يغيب الولد في قاع بوابة الهويس..” (الرواية، ص 59) وهنا يشبه رأس الغريق بفلة السنارة، وهي قطعة شبه إسفنجية تعوم على وجه الماء موصولة في خيط الصيد والسنارة، وحين تدخل الأخيرة في فم السمكة تغطس الفلة تحت الماء فيقوم الصياد بسحبها. كأن رأس محفوظ كانت فلة على وجه الماء يثقلها الجسم فتغطس، وتدفعه محاولات النجاة إلى الصعود فوق المياه، وقد سارع عبد العظيم لإنقاذ الغلام.
ويشبه نواح إسطاسية بطرد يحمله ساعي البريد يوميا إلى خالق الليل والنهار وكافة الأكوان فيه المظلمة والمأساة التي تعيشها، (الرواية، ص 75) وهي صورة قريبة من ذهن القارئ الذي مازال يتذكر شخصا اسمه ساعي البريد، بعدما غامت صوره أو انقرضت لتغير دور البريد وتحوله إلى ما يشبه المصرف المالي الذي يصرف المعاشات ويحوّل الأموال بين الأشخاص والجهات المختلفة، ويُودع فيه الناس أموالهم، أما الرسائل والطرود فقد عفت عليها الأيام بحكم الإنترنت والشركات الخاصة التي صارت تنقل أغراض الناس بصورة أسرع وأبسط.
تصوير بعض الشخصيات
من النماذج القليلة التي توقف عندها السرد، وصف شخصية عابد البراوي من الخارج، “إنه شيخ قبيلة ناقص العقل، ثلاثة أرباع شخصيته هواء مضغوط كعجلات السيارة، نفخة كدابة، طول بعرض برقبة طويلة ملغدة.. ورأس مدببة مثل زعبوطه.. يتهدل صدغاه بفائض من الدم الملتبس بلون الطحينة، ثقيل الحاجبين كحيوان بري، واسع العينين، كجحرين يطل فأران مذعوران يظهران ويختفيان في البرهة الوحدة مئات المرات، بطنه كبرميل منبعج، إذا جلس على المصطبة أمام الدوار بالفانلة والسروال نلمح تحت جلد بطنه هيئة خروف مشوي ابتلعه لتوه دون مضغ..” (الرواية، ص 63). هذا المشهد المنفّر للشخصية يضع فيه السرد كل ما أمكنه من الصفات غير المحبوبة، وكأنه يريد أن يطابقها مع أفعال عابد وسلوكه المخالف للشرع والقانون والعادات والتقليد.
وهناك مشهد آخر يتمم هذا المشهد وهو تصوير الحاجة حفيظة زوجة عابد عندما اعترفت لحمزة بأفعال عمه، “كان منظرها مثيرا للرثاء: زكيبة ضخمة من اللحم المتكوم فوق بعضه طيات طيات مترهلة متهدلة، منصوبة على عكازين، بواسطتهما تزحف قدماها على الأرض كل قدم في ضخامة فخذ تمثال رمسيس الثاني، وقد تحول عنقها إلى مخدات يرقد فوقها رأس خرجت ملامحه عن الأحجام الإنسانية فقربتها من وجه البقرة إلا إنها بيضاء مسكينة مهيضة فزعة العينين متشككة كل ظل تتحفز للانقضاض على من تتصوّر أنه خطف ولديها من حضنها دون أن تدري” (الرواية، ص 189). وواضح أن هذا المشهد يعبر عن عجز هذه السيدة أمام سجن ولديها، وأمام زوجها الضال الفاسد، ومنظرها يؤكد أنها كائن منتهى الصلاحية والعمل، ووجدت في حمزة شخصا يمكن أن ينقذ ولديها ويخفف من أحزانها باعترافاتها له. وفي كل الأحوال فإن المشهدين (صورة العمدة وزوجه) يقدمان حالة من البعد عن النسق الطبيعي الإنساني المعتاد شكلا، وإن كانا يختلفان في المضمون.
الاقتباس والتضمين
يعمل السرد على الإفادة من النصوص الشعبية والتراثية ليؤكد على معانيه وأفكاره، ويضع القارئ في جو الأحداث والمواقف المختلفة. وفي خطبة عابد البراوي الحمقاء، كثير من الاقتباسات والتضمينات تشمل الآيات الكريمة والحديث الشريف والأقوال الموروثة والحكم المعروفة.
هناك أيضا العدودة أو التعديد الذي تنوح به النساء الثكالى حزنا على من يفقدن من الأبناء أو الأقارب، وهو نمط من الغناء الحزين الدامع الذي يرصد أو يعدّد صفات الفقيد ومناقبه، فيستجلب دمع الآخرين وخاصة النساء، ونسمع إسطاسية ترسل صوتها أو تعديدها من عزبة الحجر تحمله الرياح إلى دار البراوية:
قولوا الحقيقة لأمه يا صبايا
دا الواد صغير.. لسه ما تهنّاش
وريني وشك يا ابني يا ضنايا
تسلم لي عينك من رباط الشاش (الرواية، ص 73).
وتضمين الأمثال موجود في بعض صفحات الرواية، وأشهر الأمثال الشعبية: “من فات قديمه تاه! واللي مالوش قديم مالوش جديد!” (الرواية، ص 163).
ويستخدم السرد أوصافا شعبية للحكم على الأشخاص، مثل: “شاي على ميه بيضا” لوصف راندا التي تجابه حمزة برأيها الصريح المباشر في تصرفاته ومواقفه التي لا تعجبها، وهو وصف يعبر عن استقامتها وسلامة نظرتها.
الحلم
ويمكن أن نضيف إلى ما سبق التضمين بالحلم، وهو وسيلة للتمهيد لما يمكن أن يحدث في المكان أو يجرى للأشخاص، أو لتوجيه الأحداث الروائية بصفة عامة، كما نر ى في ذلك الحلم أو الرؤية المفزعة التي حكاها العمدة عابد، لحمزة ابن أخيه وهو مريض في السرير:
“رأى نفسه يقف بلبوصا (= عاريا) كما ولدته أمه فوق جزيرة سوداء صغيرة ضيقة في حجم هذه الكنبة، وسط بحر هائج بلا برور ولا شطآن، لا مراكب ولا قوارب. لا أي كائن حي، لا شيء سوى السماء ملبدة بالسحب فوق رأسه والموج الهادر من تحته. هل شفت في عمرك موجا أسود، حتى رذاذه أسود؟ تفقس الموجة من ضرب رأسها بالموجة فينشق قلبها عن رذاذ أسود كالحبر؟ هل شفت في عمرك موجا ليس يلمع من بعيد؟ هو شاف، وكان خجلا من سفور عورته التي بدت له قبيحة جدا. وكان واثقا أن ملايين العيون غير المرئية تتفرس في تفاصيل جسده العاري بنظرات مدببة كالمسامير تنخسه في كل موضع، فراح من الحيرة والارتباك والبلبلة ينادي لعل أذنا تسمعه، فما خرج من حلقه إلا زئير كعواء الذباب، فما درى إلا والأمواج من حواليه صارت كلابا مسعورة تنهش لحمه بضراوة، تتخاطفه من كل ناحية وهو لا يني يعوي كالذئب، إلى أن هزته الحاجة أم عمّار، انتشلته قبل أن يلفظ أنفاسه.. ” (الرواية، ص 96).
هذا الحلم المفزع المزعج كان بداية لأحداث حزينة أثرت عليه وعلى زوجه، فقد انهمر الرصاص وسالت دماء، وقبض على ولديه ليقدما إلى محاكمة عن جريمة لم يرتكباها وربما كانت عن ذنوب أخرى ارتكبها العمدة من قبل.. وهكذا يمهّد الحلم لأحداث مؤلمة تتوازى مع رؤية مفزعة.
غبش الرؤية
ويمكن القول إن الكاتب يملك قدرات جيدة على القص والحكي، ويستخدم عناصر عديدة لإثراء السرد، ولكنه يبدد كثيرا منها في إصراره على العامية ومزجها بالفصحى دون مسوغ فني، أو ضرورة أدبية تضطره إلى الاستعانة بها، فضلا عن غبش الرؤية التي تجعله يتملق الطائفة على حساب أشياء عديدة، ويفتعل قضية يمكن إدراجها بعيدا عن السياق التي وردت فيه، ووضعها في الإطار الاجتماعي الذي تحدث فيه المشكلات اليومية والخصومات العادية بين الناس على اختلاف معتقداتهم واتجاهاتهم وانتماءاتهم الإقليمية والعرقية والطبقية.