خلق الله عز وجل الإنسان وميزه بالعقل والتفكر والتدبر عن سائر المخلوقات، فكان ديدن الإنسان بشكل عام التفكر في البيئة المحيطة به، ليصل بعقله أن تلك المخلوقات تحمل إعجازاً ما، يدل على قدرة خالق عظيم، ووصل الأمر في بعض الفترات الزمنية إلى أن يعبد الإنسان تلك المخلوقات لعظم خلقها، حتى يرسل الله نبياً من أنبيائه ليبين للناس أن تلك المخلوقات العظيمة التي يعبدونها ما هي إلا بعض مخلوقاته، فإذا كانت بذلك الإعجاز، فما بال المعجز؟! وما بال الخالق سبحانه؟!
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته من هؤلاء الذين اصطفاهم الله عز وجل وميزهم بالحكمة، فكان عليه الصلاة والسلام يذهب شهراً كل عام لغار حراء ليتدبر في الكون باحثاً عن خالقه، لينزل عليه الوحي أثناء إحدى تلك الليالي ويتلو عليه جبريل عليه السلام آيات من القرآن.
وبالقرآن الكريم مئات الآيات التي تدعو للعلم والتفكر والتدبر والبحث والتأمل في خلق الله تعالى؛ (إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة: 164)، (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّـهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) (الروم: 8).
وفي البيئة المحيطة يقول سبحانه: (أفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية: 17)، وفي المزروعات يقول تعالى: (إِنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنزَلناهُ مِنَ السَّماءِ فَاختَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ مِمّا يَأكُلُ النّاسُ وَالأَنعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الأَرضُ زُخرُفَها وَازَّيَّنَت وَظَنَّ أَهلُها أَنَّهُم قادِرونَ عَلَيها أَتاها أَمرُنا لَيلًا أَو نَهارًا فَجَعَلناها حَصيدًا كَأَن لَم تَغنَ بِالأَمسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ) (يونس: 24).
آفاق التفكر في خلق الله
آفاق التفكر في خلق الله متشعبة ومتعددة، فقد جعل الله عز وجل للكون أكثر من قراءة واحدة، فهناك القراءة البصرية، حيث يقلب الإنسان بصره في عظم المخلوقات ليصل لعظمة الخالق سبحانه، والقراءة المكتوبة، وهي التدبر في القرآن الكريم الذي هو في الأساس كتاب هداية للعالمين.
وآفاق التفكر في خلق الله تشمل محورين:
الأول: الكتاب المنظور؛ وهو الكون بكل ما فيه من إعجاز في خلق الإنسان والحيوان والفلك وباطن الأرض.
الثاني: الكتاب المقروء بما فيه من إبداع وإعجاز وأحكام وإشارات علمية كونية وإنسانية، وفي ذلك يقول الله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ {47} وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ {48} وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات)، وفي القراءتين هناك آفاق للتفكر والتعلم:
1- فيما يخص الكون من حولك نجد كتاب الله عز وجل يأخذنا للإبداع السماوي والإعجاز فيه، فيقول تعالى في بدء الخلق: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء 30)، وفي نهاية الدنيا يقول الخالق: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104).
يقول د. زغلول النجار عن هذه الحقائق: إن الحقائق القرآنية المذكورة في هذه الآيات لم يستطع الإنسان إدراك شيء منها إلا في أواخر القرن العشرين؛ مما يؤكد سبق القرآن الكريم للمعارف الإنسانية بأكثر من أربعة عشر قرناً، وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لا يمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق.
2- وفي الأرض وتمهيدها وتهيئتها، وباطنها وما تحويه يقول الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد: 52).
3- (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون) (الذاريات: 21)، ويمكن للإنسان أن يطلق العنان لعقله والتبحر للنظر في خلقه هو ليدرك أي عظمة تلك التي خلقته! فلينظر إلى إعجاز خلق الله في الجلد بحيث لو كان أرق مما هو عليه بدرجة واحدة، وإلى العظام إن لم تكن تحتوي على المفاصل التي تحرر الحركة فيفعل الإنسان ما يشاء ويتحرك كيف شاء، وإلى المخ الذي يحوي ملايين الخلايا العصبية فيفكر ويبدع ويخزن المعلومات بما يعادل ذاكرة 20 مليون مجلد متوسط الحجم في مساحة 22 ديسيمتراً مربعًا(1)، والمعجزات في الإنسان كثيرة، وعلومها متاحة الآن لمن يريد الاستزادة والتعلم.
آثار التفكر على إيمان المسلم
1- اطمئنان القلب لقدرة الله عز وجل: حيث إن معرفة عظم قدرة الله وسعتها تطمئن القلب المؤمن إلى أنه في رحاب رب عظيم يستحق العبادة وحده دون غيره، وهو وحده القادر على تلبية حاجاته وحمايته.
2- التفكر يدفع المسلم لحسن الطاعة وحسن العبادة، وتجنب معصيته، فخالق بهذه العظيمة يجب ألا يعصى في الأرض.
3- الصبر على الابتلاءات، فبالتفكر يدرك الإنسان أن ربه حكيم، لا يخلق شيئاً عبثاً حتى البلاء، فيصبر المسلم ويرضى وينتظر فرجه.
4- انشغال القلب بالأهم، فالقلب المدرك لعظمة الكون وهو المخلوق ينشغل بما هو دونه بالخالق القدير.
5- زيادة اليقين في وجود الله الخالق وترسيخ الإيمان بقلب المؤمن، وصدق الله القائل: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53).
إن التفكر في خلق الله تعالى عبادة يقوم بها الأصفياء الذين يقودون مجتمعاتهم لله عز وجل، ولذلك فهي واجب الدعاة والمربين، عليهم بالقراءة العميقة ليوقنوا أن الله حق، فينتقل منهم اليقين لغيرهم.
____________________
(1) الموسوعة الكونية الكبرى، الجزء 14، آيات الله في خلق الإنسان وبعثه وحسابه، د. ماهر أحمد الصوفي.