قصَّ القرآن الكريم قصة أهل قرية أيلة (مدينة لليهود، تقع على رأس خليج العقبة)، فقد حرّم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر، فإذا مضى يوم السبت، لم يقدروا عليها، فمكثوا بذلك ما شاء الله، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم، فنهتهم طائفة، وسكتت طائفة(1)، فماذا كانت النتيجة؟
لقد نجى الذين ينهون عن السوء، ثم جمع بين العصاة والساكتين في تعميم العذاب عليهم، حيث قال تعالى: (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {163} وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {164} فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (الأعراف).
ففي هذا الموقف بيان لأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأكيد على خطورة الإهمال فيه، ومن أخطار التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يأتي:
1- انتفاء وصف الخيرية عن الأمة الإسلامية:
لقد وصف الله تعالى الأمة الإسلامية بأنها خير أمة أخرجت للناس، ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، حيث قال الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110)، فالأمة لا تستحق الثناء إلا إذا قامت بلازمه؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- نقص الإيمان:
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»، وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ. يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بيده فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حبة خردل».
3- إلف المنكرات وفساد القلب:
قد تقوم كثرة رؤية المنكرات مقام ارتكابها في سلب القلب نور التمييز والإنكار؛ لأن المنكرات إذا كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها ذهبت عظمتها من القلوب شيئًا فشيئًا، إلى أن يراها الإنسان فلا يخطر بباله أنها منكرات، ولا يميز بفكره أنها معاصٍ؛ ولهذا كان الإمام أبو الحسن الزيات يقول: والله لا أبالي بكثرة المنكرات والبدع، وإنما أخاف من تأنيس القلب بها؛ لأن الأشياء إذا توالت مباشرتها أنست بها النفوس، وإذا أنست النفوس بشيء قلَّ أن تتأثر به(2).
4- عدم استجابة الدعاء:
روى الترمذي عَنْ حُذيفةَ بن اليمان، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بالْمَعْرُوفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّه أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلا يُسْتَجابُ لَكُمْ”. وَالْمَعْنَى وَاللَّهِ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ إِمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْكُمْ وَإِمَّا إِنْزَالُ الْعَذَابِ مِنْ رَبِّكُمْ ثُمَّ عَدَمُ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْكُمْ بِحَيْثُ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَمْ يَكُنْ عَذَابٌ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَانَ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(3).
وقال أبو عبدالرحمن العمري: من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين نزعت منه هيبة الله تعالى فلو أمر بعض ولده أو بعض مواليه لا ستخف به، فكيف يستجاب دعاؤه من خالقه(4)؟!
5- هلاك المجتمع:
يسهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حماية المجتمع من الهلاك، فإذا تخلى المؤمنون عنه فإن الله ينزل بلاءه على الناس، وفي هذا يقول تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117)، وفي صحيح مسلم عن زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَزِعًا مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ»، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ».
6- نزول العقوبات العامة:
يؤدي التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غضب الله تعالى على عباده ومعاقبتهم جميعاً، وهذا العقاب يشمل الجميع، حيث قال عز وجل: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال: 25).
وروى الإمام أحمد في مسنده عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي، عَمَّهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أُنَاسٌ صَالِحُونَ؟ قَالَ: «بَلَى»، قَالَتْ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ أُولَئِكَ؟ قَالَ: «يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ».
وفي سنن ابن ماجه عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي، هُمْ أَعَزُّ مِنْهُمْ وَأَمْنَعُ، لَا يُغَيِّرُونَ، إِلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ»، وفي سنن الترمذي عن أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ».
7- استحقاق اللعن الإلهي:
لعن الله تعالى اليهود حين تخلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) (المائدة).
وفي صحيح الجامع الصغير عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْص على بَنِي إسْرَائِيلَ كانَ الرَّجُلُ يَلْقى الرَّجُلَ فيقولُ: يَا هَذَا اتَّقِ الله ودَعْ مَا تَصْنَعُ فإنهُ لَا يَحِلُّ لكَ ثمَّ يَلْقاهُ منَ الغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِك أنْ يَكون أكِيلَهُ وشَرِيبَهُ وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْض كَلاّ وَالله لَتَأْمُرُنّ بالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنّ عَن المُنْكَرِ وَلَتَأْخذُن على يَدَ الظالِمِ وَلَتأْطُرُنّهُ على الحَقِّ أطْراً أوْ لَيَضْرِبَنَّ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ على بَعْضٍ ثمَّ يَلْعَنُكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ».
_______________________
(1) تفسير الطبري (13/ 186).
(2) تنبيه الغافلين: ابن النحاس الدمشقي، ص 106.
(3) تحفة الأحوذي (6/ 326).
(4) صفة الصفوة (1/ 398).