يعبر مفهوم الحداثة عن حقبة زمنية ادعى الغرب حين وصوله إليها بأنه قد نجح في نقل صيرورة التاريخ من العصور القديمة والوسيطة إلى العصر الحديث، وهو مفهوم متحيز يضع الغرب في مركز الكون وقلب التاريخ، بحيث يتم تأريخ كافة الشعوب والحضارات والأمم نسبة إلى ذلك التقويم الغربي والمعيارية الغربية، التي أطلقت حكماً بالرجعية والتخلف على كافة الشعوب التي لم تلحق بالحداثة في صورتها الغربية.
وقد بنيت الحداثة الغربية على مجموعة من المفاهيم والمبادئ الخاصة مثل المادية والاستهلاكية والرأسمالية والليبرالية، واستهدفت غاية كُبرى هي التقدم، والتقدم في المنظور الحداثي الغربي غاية في ذاته ويقاس بالأساس بمعايير مادية خالصة تستند إلى الربح، ولما كان تحقيق الربح الخالي من القيمة هو مدار التقدم، فإن تلك الحضارة قد بدأت بمجرد وصولها مرحلة الحداثة المزعومة حملات إمبريالية أطلقت عليها استعماراً؛ إذ إن مركزية الإنسان الغربي جعلته ينفي صفة الإنسان عن الآخر، فأصبح احتلال الإنسان الغربي الحديث والمتقدم للدول والشعوب هو بمثابة تعمير لأراضٍ واستكشاف لعالم جديد، وكأن ذلك العالم لم يكن موجوداً قبل أن يكتشفه الغرب.
العالم الإسلامي بين عصرين
ولأن التاريخ يعيد نفسه، فقد عايش المسلمون لحظتين تاريخيتين متماثلتين في القرنين الثاني والثالث عشر الهجريين، وبينما تمكنت الدولة العباسية خلال القرن الثاني الهجري من تدشين مرحلة التدوين الإسلامي ناهلة من علوم وفنون كافة الأمم لتتخير منها ما يناسب حضارة الإسلام الفتية بغرض تحقيق نهضة شاملة، فقد عجز أخلافهم في ربوع الدولة العثمانية خلال القرن الثالث عشر الهجري من تحقيق نجاح مماثل، إذ جاءت الحضارة الغربية رافعة شعارات الحداثة على ظهور المدافع لتفرض على العالم العربي أمراً واقعاً أسهم في تشويه وعرقلة النهضة العربية المأمولة، مستهدفة تقسيم تركة رجل أوروبا المريض بغرض الاستغلال والنهب.
ويظهر بُعد الشقة بين اللحظتين التاريخيتين المشار إليهما فيما حظي به المسلمون خلال عهد التدوين العباسي من انتقائية وقدرة واسعة على الاختيار بين كافة الحضارات السابقة اليونانية منها والرومانية والهندية والفارسية والتركية، ما فتح الباب على مصراعيه أمام اختبار تجارب مختلفة للأمم السابقة مع التقدم والنهوض وصبغها بصبغة إسلامية استجابت لمتطلبات وحاجات العالم الإسلامي آنذاك.
وعلى الجانب الآخر، فقد وأد الاحتلال الغربي الحديث مشروعات فكرية كُبرى كانت في طور التشكل والميلاد على يد كوكبة من المفكرين في كافة أنحاء العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، مثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي، وعبدالرحمن الكواكبي.. وغيرهم، استهدفوا إثارة التساؤلات حول واقع المسلمين وكيفية النهوض وتلمس أسباب التقدم عبر دراسة أسباب التخلف الإسلامي أولاً، ثم إخضاع تجارب النهوض للتمحيص والدراسة النقدية المستقلة.
وهي مرحلة ثرية عبر فيها العقل العربي عن نفسه بقوة وأثبت قدرة على التحليل والنقد والدراسة المتأنية، وقدمت تلك المشروعات حلولاً ناجعة –على المستوى النظري– للمشكلات التي اختبروها كل في مجتمعه، لكن الصيرورة الطبيعية لتلك المشروعات التي بحثت عن أسباب التقدم قد تم إيقافها جبرياً بدخول الإمبريالية الغربية التي كان لها رأي آخر في مسألة النهضة العربية.
الحداثة الغربية.. إمبريالية التدمير
أحدثت النهضة الصناعية الشاملة القائمة على مبدأ الربح والهادفة لتعظيم الاستهلاك، فائضاً كبيراً في الإنتاج، وعجزاً في المواد الخام؛ ما دفع الغرب إلى البحث عن أسواق خارجية لتصريف منتجاته واستعباد الأيدي العاملة الرخيصة ونهب الثروات والموارد لتوفير المادة الخام.
وبينما كانت الدولة العثمانية وولاياتها تحاول جاهدة لاستنهاض الهمم من أجل اللحاق بركب التقدم، فقد دمرت الحملات الاستعمارية الغربية تلك الجهود وعمدت إلى تحديث شكلي يخدم مصالحها في استغلال ونهب الثروات، فمدت السكك الحديدية لتسهيل نقل الجنود والمحاصيل الزراعية المنهوبة، ودعمت التعليم بالقدر الذي يسمح بالحصول على موظفين يخدمون مصالح الإمبراطورية ويصبحون بفضل تعليمهم التغريبي وكلاء للغرب في بلادهم، وتوسعت في زراعة المحاصيل التي تخدم الصناعة في بلاد الاحتلال بغض النظر عن حاجات أهل البلاد المحتلة، وتعاونت مع الأنظمة السياسية الاستبدادية لإحكام القبضة الأمنية على الشعوب المحتلة.
الحداثة الغربية وأزمة العقل العربي
لكن تلك الآثار التدميرية التي فرضتها الحداثة الغربية في عالمنا العربي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بقدر فداحتها ليست هي فحسب السبب الرئيس في استمرار تراجع الازدهار الحضاري العربي، إذ تمثلت الجريمة الرئيسة للحداثة الغربية فيما ارتكبته من تدمير ممنهج للعقل العربي وتشويه لكافة جهود التنظير للنهضة في العالم العربي، حيث رحل الاحتلال عسكرياً عن الدول العربية –رغم أنه قد عاد مرة أخرى لاحتلال عدة دول كما أنه أبقى على الكيان الصهيوني بشكل دائم في فلسطين المحتلة– وبقيت آثاره الفكرية المدمرة راسخة في العقل العربي من عدة نواحٍ، منها:
– شوهت الإمبريالية الغربية المبنية على الحداثة المشروعات الفكرية العربية التي كانت تتلمس طريقها في البحث عن أسباب التقدم وتستنهض الجهود لإصلاح مجتمعاتها بالطريقة التي تستجيب لمشكلات تلك المجتمعات بعيداً عن الإجابات الجاهزة التي قدمها الغرب وفرضها بالقوة الغاشمة ليعزز سيطرته على العالم العربي.
– فرضت الحداثة الغربية على العقل العربي ثنائية اختزالية قسمت مفكريه وفلاسفته إلى فريقين متصارعين؛ الأول: فريق تغريبي تماهى مع الغرب نتيجة إعجاب سطحي بتقدمه، والثاني: فريق إسلامي رافض كلياً للغرب ومنغلق على ذاته ومستغرق في التراث، وهو ما فوّت على العرب والمسلمين فرصة التعاطي الإيجابي مع الغرب عبر انتقاء بعض أسباب التقدم التي تتلاءم وثقافتنا، بالإضافة إلى تضييع جانب معتبر ورئيس من الجهود الفكرية والتنظيرية في الصراع بين الفريقين بدلاً من البحث عن أسباب التقدم والاستجابة للحاجات الحقيقية والملحة للمجتمعات المسلمة.
– قدمت الحداثة الغربية إجاباتها الخاصة للمشكلات التي عايشها الغرب في عصور المظلمة باعتبارها نموذجاً معرفياً حضارياً قابلاً للتطبيق في كل مكان وزمان، وذلك عبر الادعاء بعالمية الغرب ومركزيته مكانياً وتاريخياً، وهو ما ضيع على المفكرين والفلاسفة العرب فرصة الاطلاع والاستفادة من تجارب الأمم الأخرى من كافة أنحاء العالم مثلما فعل المسلمون إبان توسع حضارتهم خلال العهدين الأموي والعباسي، بما مكنهم من تأسيس حضارة متنوعة وشاملة استوعبت كافة أسباب التقدم من سائر أنحاء تجارب الأمم دون الاتكاء على حضارة واحدة بعينها.
– عززت الحداثة الغربية من قبضة الأنظمة الاستبدادية على الشعوب العربية، واستحدثت أنظمة تعليمية تعمل على تشويه ممنهج للعقول العربية الناشئة بما يخدم استمرار أسباب التخلف والحيلولة دون الخروج من أسر الإعجاب بالحضارة الغربية لدى الأجيال الجديدة.
وأخيراً، فقد لخص د. عبدالوهاب المسيري في كتابه «دراسات معرفية في الحداثة الغربية» أزمة العقل العربي قائلاً: «قد يكون من الأجدى أن يوحد الجميع قواهم، وأن نتعاون كلنا –إيمانيون وعلمانيون– على توليد المشروع الحداثي العربي والإسلامي باعتباره جزءاً من المحاولة الإنسانية العامة التي تحاول تجاوز الحداثة الداروينية المنفصلة عن القيمة، والمبنية على الصراع، والتنافس والتقاتل والاستهلاك.. حداثة إنسانية تنطلق من إنسانيتنا المشتركة.. تدير المجتمعات الإنسانية بطريقة مختلفة ولصالح الجنس البشري بأسره».
ونظراً لما يعانيه الغرب من أزمة بنيوية نتيجة ما آلت إليه أحوال الإنسانية من أوضاع كارثية جراء الحداثة الغربية سواء على صعيد تدهور المناخ وتلوث البيئة وانعدام الأمن المائي والغذائي وانتشار الحروب والأوبئة، فربما سنحت الفرصة الآن أكثر من أي وقت مضى لفكر عربي يتجاوز المعيارية الغربية ويستجيب للواقع العربي بعيداً عن الإملاءات الخارجية والوصفات الجاهزة.