امتدادًا لمسيرة تقنين وضع الأسرة المسلمة وضبط حدودها ورسم منهجية نجاحها وحمايتها من الأجواء والأحوال وتحديد المسؤوليات بدقة وإحكام، شرع الله تعالى قانونًا لتسيير شؤون الأسرة، وسماه القوامة.
وقانون القوامة مبني على قول الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (النساء: 34)، ويزداد اتضاحاً بقوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228)، ويتلألأ بقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: 19).
فالقوامة في الإسلام نظام يهدف إلى تحقيق التوازن والاستقرار داخل الأسرة، وهي مسؤولية جسيمة ملقاة على عاتق الرجل لتحقيق الرعاية والحماية لأسرته، ومن خلال الفهم الصحيح للقوامة، يمكن بناء أسرة قوية متماسكة تساهم في بناء مجتمع صالح ومتزن.
مفاهيم القَوامة
– القَوامَةُ تَقديرٌ رَبّانِيٌّ، لا خِيَارَ لأَحدٍ في رَفضِه أو قبولِه، وإنَّما يُسارِعُ أَهلُ الإيمانِ إلى تَمامِ الاستِجابةِ لأَمرِ رَبِّهِمْ والمَحَبةِ لِشَرعِه سبحانه، قالَ تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) (النساء: 65).
– القَوامَةُ تَوافُقٌ مَعَ الفِطرَةِ التي غَرَسَها الله تعالى في الخَلقِ، فالمَرأةُ تَملِكُ فائِضًا مِن العاطِفةِ يَطغى أَحيانًا كَثيرةً على المَنطِقِ ويفتَقِرُ إلى التَّرَيُّثِ، وليسَ مَطلُوبًا أَنْ تَتَخَلَّصَ المَرأةُ مِن تِلكَ الخاصِّيَةِ، فهي مِن أَبرَزِ سِماتِها وأَجمَلِ خِصالِها، وهي امرَأةٌ بِقَدرِ ما تَمنَحُهُ مِن عاطِفةٍ ورِقَّةٍ.
وهذا ليسَ فِقهًا ذُكوريًّا كَما يَزعُمون، ولَكِنَّهُ تَقدير مَن خَلَق الإنسَان وهُو أعلَمُ بِه، قال تعالى: (أَلَا يَعلَمُ مَن خَلقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك: 14).
– القَوامَةُ مِحرَابُ عِبادَةٍ يُحاسَبُ فيهِ الإنسَانُ عَن رَعِيَّتِه، ماذا قَدَّمَ لَها؟ ماذا فَعَلَ لأُسرَتِه لِكَي يُبلِغَهُم شاطِئَ الأَمانِ، ويَحفَظَهُم مِن نَزغِ الشَّيطانِ، ويَدفَعَ عَنهُم شَبَحَ العِصيانِ، ويَحمِيَهم مِن التَّيَّاراتِ التي تَستَهدِفُ الفِطرَةَ في قُلُوبِهِمْ، والسَّكِينَةَ في عَلاقاتِهِمْ، والمَحَبَّةَ في رابِطَتِهِمْ.
– القَوامَةُ كَذلكَ حِمايةٌ لأَسوارِ الأُسْرَةِ مِن أَعداءٍ يَتَرَبَّصونَ بِها لَيل نَهار، يَنتَظِرونَ الغَفلَةَ لِيَدخُلوا مِنها إلى قَلبِها، فيُزِيلوا ثَوابِتَها، ويُحَطِّموا قِيَمَها، ويَأْسِروا سُكَّانَها، ويَستَولوا على حاضِرِها، ويُفسِدوا مُستَقبَلَها، وما دَخَلَ جُندُ الشَّيطانِ إلَّا لِغَفلَةِ الحارِسِ وتَركِهِ لِخَندَقِ القَوامَةِ الأَصيلِ، وتَطَلُّعِهِ إلى القَوامَةِ الشَّكلِيَّةِ، والاسْتِعراضِ الجَسَدِيِّ، بِصَوتِهِ حينًا، وبِيَدِهِ حينًا، وبِسوءِ اسْتِخدامِ بَعضِ الصَّلاحِيَّاتِ المَمنوحَةِ له أَحيانًا! فبَدَلًا مِن حِمايَةِ الثُّغورِ ذَهَبَ يَبحَثُ عَنِ القَوامَةِ في القُشورِ.
– القَوامَةُ مَعناها الكَفاءَةُ في التَّحَمُّلِ، والقُدرَةُ على النُّهوضِ بِالتَّبَعِيَّةِ، والقِيامُ بِالواجِبِ، فَهِيَ تَكليفٌ لا تَشريفٌ.
– القَوامَةُ غَرسُ إِيمانٍ وتَعاهُدُ إسلامٍ وحِمايَةُ قِيَمٍ، ورِعايَةُ نُفوسٍ واحتِواءُ طَبائِعَ، واستِيعابُ أَفكارٍ وعِلاجُ خَلَلٍ.
– القَوامَةُ كَظْمٌ لِلغَيْظِ، وغَيْظٌ لِلْعَدُوِّ، وتَعالٍ على التَّطَلُّعاتِ الشَّخصِيَّةِ، وحِفاظِ على حَقِّ الأُمَّةِ في وُجودِ أُسرَةٍ صادقة المُعتَقَدِ، سَلِيمَةِ السُّلوكِ، صَحِيحَةِ المُنتَجِ.
محترزات
يجب أن تُفهم القوامة بعيدًا عن المفاهيم المغلوطة التي تتعلق بالسيطرة أو التسلط، بل كمسؤولية رعاية وحماية قائمة على المحبة والرحمة والشراكة بين الزوجين.
كَما يَجِبُ أَلَّا يَكونَ هُناكَ تَنازُعٌ بَينَ الرَّجُلِ والمَرأةِ، بَل لَهُ حَقُّ الطّاعَةِ بِمُقتَضى تِلكَ المَسؤوليَّةِ، مَعَ التَّأكِيدِ على أَنْ تُمارَسَ القَوامَةُ في إِطارِ الشُّورى، وإِعلاءِ المَصلَحَةِ العامَّةِ، بِمَعزِلٍ عَن الكَيدِ والتَّعالي، فَقَد خُتِمَتْ آيَةُ القَوامَةِ بِقَولِ اللهِ تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) (النساء: 34)، وكَأنَّ اللهَ تعالى يُحَذِّرُ مِنَ العُلوِّ والتَّكَبُّرِ بِتِلكَ الدَّرَجَةِ التي مَنَحَها للرَّجُلِ، فَأَكَّدَ أَنَّهُ سُبحانَهُ المُختَصُّ بِالعُلوِّ والتَّكَبُّرِ، وليسَ لِمَخلوقٍ مُنازَعَتُهُ في عُلوِّهِ وكِبريائِهِ، سُبحانَهُ وتعالى.
متطلبات القوامة
– الإنفاق:
القَوامَةُ مُرتَبِطَةٌ بِتَوفِيرِ الرَّجُلِ لِلاحْتِياجاتِ المالِيَّةِ لِلأُسرَةِ، وهذا يُعَدُّ مِن واجِباتِهِ الأَساسيَّةِ في الإسلام، فالمَرأةُ لَيسَت مُكَلَّفَةً بِالإنفاقِ في أَيِّ مَرحَلَةٍ إِلَّا ما كانَ لِعِلَّةٍ خاصَّةٍ، قالَ تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيهِ رِزقُهُ فَليُنفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) (الطلاق: 7).
وعن أَبي هُرَيرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّم: «دينارٌ أنفقتَهُ في سَبيلِ اللَّهِ، ودينارٌ أنفقتَهُ في رَقَبَةٍ، ودينارٌ تَصدَّقتَ بهِ علَى مِسكينٍ، ودينارٌ أنفقتَهُ علَى أَهلِكَ، أَعظمُها أجرًا الَّذي أنفقتَهُ علَى أَهلِكَ» (رواه مسلم).
– المَهاراتُ القِيادِيَّةُ (الرجولة):
الرَّجُلُ في الإسلامِ مُكَلَّفٌ بأنْ يَكونَ قائِدًا ومَسؤولًا عَن أُسرَتِه، وهُو مَسؤولٌ عن تَوجيهِ أَفرادِ الأُسرَةِ ورِعايتِهِم بِما يُحَقِّقُ الخَيرَ والصَّلاحَ، القِيادَةُ هُنا لا تَعني السَّيطَرَةَ، بَلِ القُدرَةَ على الإِلهامِ والإِرشادِ والتَّوجيهِ بِما يُخدِمُ مَصلَحَةَ الجَميعِ، وتِلكَ الدَّرَجَةُ مِنَ التَّعَقُّلِ وعَدَمِ تَغليبِ العاطِفَةِ على العَقلِ هي الدَّرَجَةُ التي جَعَلها اللهُ للرِّجالِ على النِّساءِ، حيثُ يَتحمَّلُ مَسؤوليَّةَ اتِّخاذِ القَرارِ الأَخيرِ عِندَ اللهِ وعِندَ النّاسِ.
فالقَوامَةُ تَتَطَلَّبُ مِنَ الرَّجُلِ أَنْ يَكونَ قائِدًا بِالمَعنى الإيجابِيِّ، قائِدًا يُلهِمُ أَفرادَ أُسرَتِهِ ويَعمَلُ على تَحقيقِ مَصالِحِهِم، كَما تَتَطَلَّبُ مِنَ المَرأةِ أَنْ تَكونَ مُتَعاوِنَةً ومُتَفهِمَة لِدَورِ الرَّجُلِ، وأَنْ تُسْهِمَ بِفاعِلِيَّةٍ في تَحقيقِ استِقرارِ الأُسرَةِ.
ومِن خِلالِ هذا الفَهمِ المُتَوازِنِ، يُمكِنُ لِلْقَوامَةِ أَنْ تَكونَ وَسِيلَةً لِبِناءِ أُسرَةٍ سَعِيدَةٍ ومُجتَمَعٍ قَوِيٍّ يَقومُ على أُسُسٍ مِن العَدلِ والمَحَبَّةِ والاحترامِ المُتَبادَلِ.
– التفضيل:
قال تعالى: (بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 34)، التَّفضيلُ هُنا ليسَ تَفضيلًا لِجِنسِ الرِّجالِ على كُلِّ جِنسِ النِّساءِ، بَل هُناكَ بَعضُ النِّساءِ رُبَّما أَحكَمُ وأَضبَطُ مِنَ الرِّجالِ، ولا يَخفَى عَلينا هُنا تَعبيرُ «الرِّجالِ» وليسَ «الذُّكورِ»، فَالرُّجولَةُ بِالإِضافَةِ إلى دَلالَتِها الذُّكُورِيَّةِ، هي كَذلكَ سِماتٌ إِيمانِيَّةٌ وقِيَمٌ تَربَوِيَّةٌ ورِعايَةٌ مالِيَّةٌ وإِنسانِيَّةٌ، فَهِيَ رِعايَةٌ وحِمايَةٌ وعِنايَةٌ، فَمَن لَم يَقُم بِتِلكَ المَهامِّ فإنَّ صِفَةَ الرُّجولَةِ قَد تَنسَحِبُ عَنهُ وإِن بَقِيَتِ الذُّكُورَةُ فَحَسْبُ.
وقد يفهم منها ما فَضَّلَ الله به رِجالًا عَلى نِساءٍ، ونِساءً عَلى رِجالٍ، كُلٌّ لهُ مِيدانُه الخاصُّ بِه، الذي أهله الله له واختصه به، والتَّفضيلُ في هذا الميدان هو دَرَجَةُ المَسؤوليَّةِ التي قالَ اللهُ عَنها: (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
وقد يُفهَمُ مِنها أنَّ التَّفضيلَ بَينَ الرِّجالِ بَعضِهم عَلى بَعضٍ، أي إِنَّ الفَتاةَ أَوِ المَرأةَ ارتَضَتْ أَنْ تَنتَقِلَ مِن وِلايَةِ أَهلِها إلى وِلايَةِ رَجُلٍ آخَرَ لِما اعتَقَدَتهُ مِن تَفضيلِ هذا الرَّجُلِ عَلى سائِرِ الرِّجالِ الذينَ تَقدَّموا لِلزَّواجِ مِنها، فَهذا التَّفضيلُ الذي اختارَت زوجها بناء عليه يَستَوْجِبُ أَنْ يُراعِيَ الرجل تبعات تِلكَ الثِّقَةَ التي وَضَعَتْها في عُنُقِه، فيُحسِنَ رِعايَتَها ومُعاشَرَتَها، وهو مَعنىً لَطيفٌ تَحتَمِلُه الآيَةُ.
وأخيرًا، فإنَّ القَوامَةَ تُمارَسُ ضِمنَ إِطارٍ مِنَ الاحترامِ المُتبادَلِ، بِحَيثُ لا يَكونُ هُناكَ انتِقاصٌ لِحُقوقِ المَرأةِ أَو ظُلمٌ لَها، إنَّ القَوامَةَ في الإسلامِ تُحَقِّقُ الانسِجامَ الأُسَرِيَّ، وتَوزع الأدوار بِشَكلٍ يُعَزِّزُ مِن استِقرارِ الأُسرَةِ، ويُسهِمُ في تَحقيقِ السَّكِينَةِ والطُّمَأنِينَةِ.
كَذلِكَ، فإنَّ القَوامَةَ تَتَطَلَّبُ مِنَ الرَّجُلِ الاستِماعَ إلى زَوجَتِهِ وأَبنائِهِ، وإِعطائِهِم الفُرصَةَ لِلتَّعبيرِ عَن آرائِهِم واحتِياجاتِهِم، بِما يُساهِمُ في بِنَاءِ عَلاقَةٍ قَوِيَّةٍ قائِمَةٍ على الثِّقَةِ والتقدير.