ها نحن في الموجة الرابعة لا تملك أي دولة عربية أو إسلامية أي مشروع حقيقي أو تقوم بإصلاح داخلها
يتأهب النظام الدولي بنظامه السياسي الغربي وأدواته وقيمه المادية ليستكمل إحاطته الجديدة في تحويل جغرافية العرب والمسلمين إلى الموجة الرابعة الجديدة من استكمال السيطرة والنفوذ وتفكيك المقاومة والممانعة والقوة المتمركزة في أدوات الدين الإسلامي وخصائصه الفريدة, والتي ولدت الطاقة الإيمانية والفكرية والإنماء المستمر للأجيال المتتالية لاستئناف الحياة الإسلامية الحضارية التي تمثلت يوماً ما في الخلافة الحضارية الإسلامية، وبعد سقوطها تحولت إلى قوى عربية ثم صحوة إسلامية ومقاومة جهادية.
الموجات الثلاث السابقة استنفدت ما يقارب 8 قرون منذ تلاقي المصالح المغولية والمسيحية وقبل سقوط الخلافة العباسية في عام 1258م وإلى يومنا هذا، حيث كانت الموجة الأولى في القرن الخامس عشر وهدفها السيطرة على الطرق التجارية التقليدية بين أوروبا وآسيا وإيجاد طرق تجارية بديلة، وكانت بدايتها بسقوط الأندلس، (عام 1492م)، بقيادة «فرناندو» و«إيزابيلا»، ودورهما في دفع ما يسمى بالكشوف الجغرافية وتشجيعها، وقد تم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح عام 1497م، ومنه بدأ بتطويق العالم العربي والإسلامي، وتمت السيطرة للبرتغاليين التي استنهضت حماسة الاستعمار الأوروبي المنظم والممنهج للسيطرة على الطرق التجارية والموارد ومصادر الخامات، وساعد ذلك على تطوير الاقتصاد الأوروبي وقدرته على تطوير الصناعات وخصوصاً الصناعات العسكرية.
لقد أحاط الأوروبيون والاستعمار الوحشي العربَ والمسلمين بالحاميات العسكرية، وإسقاط المدن الإستراتيجية الساحلية، ورسم طرق التجارة الجديدة لتكون تحت سيطرة الأوروبيين، وتحويل ميزان القوة العسكرية والاقتصادية والتجارية، وكانت هذه هي الموجة الأولى من السيطرة والنفوذ، ثم أتت الموجة الثانية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918م، حيث تم إسقاط النظام السياسي «دولة الخلافة العثمانية»، وتفتيت الأوطان العربية والإسلامية إلى جغرافية مقسمة قابلة للانهيار والاحتراب، وسهولة السيطرة عليها، وأحكمت السيطرة بالاتفاقيات والمعاهدات بدءاً من «سايكس بيكو» عام 1916م، و«وعد بلفور» عام 1917م، ومعاهدة «لوزان» عام 1920م، وكان هدف هذه المرحلة تأسيس النموذج السياسي التابع والمحكوم السيطرة عليه بالاتفاقيات الأمنية أو السيطرة الاقتصادية.
وكانت أيضاً هناك المقاومة من حركات التحرر الوطني والإسلامي، وكان الاستقلال ظاهرياً في حين أن السيادة الحقيقية كانت للنظام الدولي الذي تحكمه القوى الكبرى؛ سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
وكان الهدف هو منع أي تجمع لثقل سياسي يعيد الخلافة أو القوة للعرب والمسلمين مع التبعية الاقتصادية والتقنية.
ومع فشل نظام التحرر العربي وانبثاق عصر الصحوة الإسلامية التي انطلقت منذ السبعينيات من القرن الماضي كان التخطيط للموجة التالية التي انطلقت بعد سبتمبر 2001م، حيث تم السير على خطوط بدأت متدرجة التصاعد، فقد تم تجريم الممانعة والمقاومة والمبدأ الجهادي بما يسمى «الحرب على الإرهاب»، وكان المقصد هو تجريم النصوص الشرعية الخاصة بالجهاد وقتل كل محاولة حقيقية لهذا المفهوم.
وكانت أفعال وممارسات تيارات متطرفة مخترقة كافية لتؤتي هذه الحرب أُكلها في تثبيط القوة المعنوية للمسلمين، وإظهار دينهم بمظهر الإجرام، والتعدي، وتم دمج الدول العربية والإسلامية في الحرب على ما يسمى بالإرهاب؛ «جماعات ودولاً ومؤسسات وهيئات».
وتأتي مرحلة الثورات العربية بعد مضي عقد من الزمان كمحاولة تغيير الواقع العربي الدكتاتوري الذي يمارس الإرهاب الحقيقي لينطلق النظام الدولي الغربي في مستوى جديد من الموجة الرابعة وهو «تجريم الإسلام السياسي»، وتأطيره في خانة «الإرهاب» وبذلك إسقاط جانب مهم من ثقافة المسلمين وحضارتهم في استئناف الحياة الإسلامية الرشيدة، وستستغرق عقداً آخر ليتصل بعد ذلك بالخطوة الثالثة لاستكمال الموجة الرابعة في نهايتها بتجريم «القانون الإسلامي في الحياة الاجتماعية» لتصبح «قوانين الأحوال الشخصية والتشريعات الاجتماعية» في خانة «الإرهاب» الذي يجب أن يمنع من الحياة المدنية للناس بما يفقد العرب بعد فقدانهم لجغرافيتهم ومواردهم ونضالهم السياسي هويتهم الاجتماعية ليذوبوا في بحر الحياة الغربية وتستبدل هويتهم.
حتى إذا ما أتت الموجة الرابعة أُكلها فإن العرب والمسلمين سيكونون جاهزين ليكونوا عبيداً حقيقيين لخدمة الرجل الغربي وهم على أرضهم، وبدلاً من نقلهم في مراكب الشحن العبودي كما كان في القرون الماضية، ولكن هذه المرة سيكونون راغبين بهذه الخدمة لأن الغربي سيكون الملهم والسيد الذي يحدد مسار معاشهم وخيرهم في الحياة.
لذا، فإن اعتقاد أي نظام سياسي عربي؛ إسلامياً كان أو وراثياً، أو محافظاً، أو ليبرالياً، أو علمانياً، بأنه سيتمكن في العيش بحرية وسلام بالقفز على هذه الحقائق سيكون واهماً، ولن يسمح لأي نظام سياسي في المنطقة العربية والإسلامية ببناء أي مشروع تنموي أو حضاري يؤسس لقوة حقيقية اقتصادية أو عسكرية، وإن الاقتتال والاحتراب السياسي والأيديولوجي والعقائدي على منازعة الآخر والذي تمارسه أنظمة التحالف مع أطراف دولية لن يجدي في تحرير الأمة وسيادتها وعزتها.
لقد فقدت الدولة العثمانية سلطانها بسببين؛ أنها لم تملك مشروعاً حقيقياً للنهضة في الأمة، وفي نفس الوقت أنها لم تعالج داخلها وخللها.
وهكذا في الموجة الثانية لم تملك قوى التحرر والنظام السياسي العربي، أي مشروع، ولم تعالج أي خلل وتكرر نفس الخطأ.
وعند بدء الموجة الثالثة لم تحمل أي حركة إصلاحية دينية أو علمانية أي مشروع، أو تصحح الأخطاء الحقيقية.
وها نحن في الموجة الرابعة لا تملك أي دولة عربية أو إسلامية أي مشروع حقيقي أو تقوم بإصلاح داخلها، وستظل الأمة ضعيفة وتستسلم عقداً بعد عقد لجبروت وسلطان النظام الدولي وحضارته المادية ما لم تستلهم القوة من الإسلام الذي حاربته الموجات الثلاث، والرابعة في الطريق، وستواجه أيضاً مقاومة يعدها الله سبحانه.