إن سعادة الإنسان وفرحته ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما يشغله
إن سعادة الإنسان وفرحته ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما يشغله، وهي تختلف باختلاف الفكر والاعتقاد والمستوى المعيشي والأخلاقي، فبينما نجد رجلاً كل سعادته امتلاك أحدث سيارة في العالم، نجد آخر يحلم بامتلاك درّاجة، بل نجد أن السعادة تختلف بالنسبة للشخص نفسه حسب تغير فكره واهتمامه، فبينما في فترة من عمر امرأة تمثل السعادة لديها امتلاك ثوب قصير وتصفيف الشعر على آخر صيحة، نجدها نفسها في فترة أخرى من حياتها تمثل لها السعادة امتلاك وارتداء طرحة وعباءة، وآخر قمة سعادته في الحصول على فيلم عالمي والسهر على رؤيته للمباهاة على أقرانه من غده، نجده نفس الشخص بعد أن تغيرت اهتماماته يسعد بركعتين في قيام الليل.
ويمكن أن تتحول فرصة رؤية ممثلة ومتابعة أخبارها وتقليد ملابسها إلى فرحة غامرة بتوبتها وحضور دروس العلم معها، ونجد فتاة غير متزوجة كل سعادتها أن تتزوج، وبعد فترة يتغير مفهومها للسعادة إلى تمني الإنجاب، ويعطي الخالق فتصبح السعادة إنجاب جنس بعينه، ثم السعادة بتربية الأبناء فتزويجهم، فتمني إنجابهم.
السعادة اللحظية
ويعطي الخالق بسخاء، ونطلب بإلحاح، ومع كل أمنية ننسى ما دعوناه سابقاً، فقد اختلف مفهوم سعادتنا بتغير اهتماماتنا، وكل ما ذكرناه آنفاً يمثل سعادة وقتية تنتهي بانتهاء نشوة الحصول عليها، والتطلع دوماً إلى المزيد، والسؤال المطروح: كيف يمكننا أن نضيف إلى مفهوم السعادة اللحظي المؤقت ما يديم علينا الفرحة والسعادة الأبدية، وكيف يمكن أن تتغير اهتماماتنا؟
شرنقة المطبخ وتغيير الاهتمامات
لن نذهب بعيداً، وسنحاول الاقتراب رويداً رويداً من إحدى الأخوات وهي تقوم بذلك بشكل تطبيقي عملي، فقد تزوجت أختنا، وكانت تجيد الطهي بشكل ممتاز، وزينت ذلك بدراسة لكثير من أنواع المأكولات، فكانت سعادتها تتمثل في مدح الآخرين لإنجازاتها المطبخية، وبدأت تسرف في إعداد الأصناف المختلفة، وتسرف في متعة تذوق ما أعدته، وأبى جسدها أن يفرط فيما أسبغت عليه من دهون وشحوم، وتوالت الأيام فالشهور فالسنوات، وهي تزداد حباً للطعام، ويحمل جسدها المزيد من الأثقال والأحمال، وبدأت تداعبها الأمراض، فتهتز لذلك مفاصلها، فتقل حركتها وتستقر الأمراض معها مصاحبة لها، فأصبحت تشعر وكأنها في بحر لجي يغشاه موج، من فوقه موج، من فوقه سحاب، فاستغاثت مستعينة بالله، وبدأت في تغيير الاهتمامات، وخرجت من شرنقة المطبخ إلى الاستعانة بتوجيهات الله في القرآن، وتنقلت من آية إلى آية تبحث عن مبتغاها كالفراشة المحلقة، حتى وجدت بغيتها تتلوها إحدى الداعيات.
{… وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ “31”}(الأعراف).
فتشربت تلك الآية الكريمة التي تلمس وترها الحساس، وتعجبت أن الله يأمر بعدم الإسراف في الحلال، وزال عجبها حيث إنها نموذج حيّ معبّر عما وصل إليه حالها بهذا الإسراف، وشرعت في تغيير الاهتمام بشكل مباشر، فهي لن تكون أبداً مع من لا يحب الله، وستحاول أن تخفف من طعامها وشرابها من أجل حب المولى، ولكنها حاولت كثيراً قبل ذلك، وكلما نجحت سحقها الفشل، فكانت تحاول من أجل ارتداء ما تريد من ملابس، وحاولت من أجل التخلص من الأمراض، وحاولت من أجل زوجها، وحاولت من أجل… ومن أجل… ومن أجل…
ولكن في هذه المرة تحاول من أجل الله وحده، الله الذي تصوم من أجله، ونجحت وتصلي من أجله وتنجح، وتصل الرحم من أجله وتنجح، ولم تتحاور كثيراً مع نفسها، فقد كتبت الآية على لوحة معلقة أمامها في مكان ظاهر.
ولنتطلع إلى محاولاتها، فقد وضعت الطعام الشهي أمامها، وبدأت تلقي في معدتها دفعات منتظمة، وقررت أمراً، فقد قسمت الطعام لأجزاء، جزء لها تأكله، وجزء لله ستتركه من أجله سبحانه، واستطاعت أن تكتفي بنصيبها، ونجحت، وتوالى النجاح تلو النجاح، وبدأت تعتمد أساساً على النافع من الطعام وتبتعد عن الضار، واستعانت بأهل الخبرة، وبدأت صحتها في التحسن، وبدأ الجسد يتنازل عن دهونه رويداً رويداً، وبدأت الأمراض لا تأنس بصحبتها، والأمر الملاحظ هو أن سعادتها أصبحت بدلاً من الإكثار من الطعام إلى الاعتدال في الطعام، فقد تغير اهتمامها من إشباع نفسها بكل ما لذ وطاب إلى إرضاء ربها بكل ما طلب وأراد.
بين صداقة السيجارة وصحبة الملائكة
وأصبحت لها تجربة لطيفة، فقد عرضت على زوجها المدخن لسنوات طويلة نفس ما توصلت إليه ونفعها، فقد طلبت منه بعد أن أعادت على مسامعه رواية الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار، وذكر كل شخص منهم عملاً صالحاً قد أعانه الله عليه ولم يكن يقصد منه سوى إرضاء المولى، وكلما ذكر أحدهم عملاً صالحاً فيما بينه وبين الله كان الغار يفك عنهم قبضته بانفراج جزء من الصخرة، وقالت لزوجها: لو أردت أن تكون من أولياء الله مثلهم فاجعل سيجارة لك تشربها وسيجارة من أجل الله تتركها، وذكرت لنا أنها قالت له ذلك وهي تعلم أن الأمر يكاد يكون في حكم المستحيل، ولكن زوجها بدأ في تغيير اهتماماته، فحتى يصبح من أولياء الله بترك شيء مهم في حياته لله هذا أمر يستحق، ولاحظته وهو يشرب سيجارة، والتي بعدها يطفئها بعد أن يشعلها لله، ونجح نجاحاً مبهراً في الانفكاك من أسر عادة كان يكن لها كل بغض وكراهية، وذكرت أنه قال لها: إن هذه السيجارة كانت تشعرني بالخجل فهي كالسكّاتة (البزازة) للطفل، الذي يأخذها يتلهى بها في وقت ما، وبعد أن أصبح كبيراً نوعاً ما تم فطامه منها، وعانى كثيراً ليتركها ولكنه نجح، ولا يمكن أن يضعها على فمه بعد ذلك إلى أن يموت، فقد أصبح كبيراً، ويقول: وأنا صغير كنت أضع السيجارة في فمي لأثبت أني كبير، وبعد أن أصبحت رجلاً بالفعل كنت أريد إثبات ذلك بفطامي منها، ولكني لم أنجح طوال تلك السنوات العجاف، أما الآن أشرب واحدة لنفسي وأترك الأخرى لله، ومن أجل الله وإخلاصاً لله، فقد تيسرت المهمة بأمر معجز، ولا أخفيك أني كنت أدعو المولى دوماً أن يتقبل عملي، والحمد لله أنا في طريقي للتحرر الكامل من هذا الأسر المتسلط، فقد رفضت «صداقة السيجارة» وأصبح لي أصدقاء من الملائكة، وأناجي ربي برائحة طيبة، ولله الحمد على ذلك من قبل ومن بعد.
زيارة اليتيم وزيارة الطبيب
وقصتنا التالية بطلها شاب تزوج فتاة أسعده الله بصحبتها، وكان كل همّه أن تنجب له أحد الصالحين أو الصالحات، وطال الانتظار، ومرت الشهور ثقيلة متثاقلة، وقررا المتابعة الطبية، فكان نصيبه منها الأسى والحزن، فقد اعترف الطب بعجزه تماماً عن مساعدته على الإنجاب حيث إنه عقيم، كان هذا التصريح بمثابة مطرقة الهموم، التي توالت عليه بضرباتها، فطلب من زوجته اللحاق بأهلها لتفكر فيما ستفعل، وودع زوجته، وبغيابها عن نظره شعر وكأن روحه فارقته معها، فأهمل عبادته، وأهمل عمله، وشعر وكأن دوره في الدنيا قد انتهى قبل أن يبدأ، وترك زوجته في دوّامة لا يعلمها إلا الله، تخشى أن تدور بها إلى قرار سحيق، وسألت أهل العلم فهي تحب زوجها كثيراً، وتحب أيضاً أن تتمتع بغريزة الأمومة، فطمأنتها إحدى الداعيات بقولها: حبيبتي، إنك بالفعل متزوجة، ولن يضيرك أن تكوني مع زوجك لفترة أخرى، فإن لك رباً لا يعجزه شيء، ومشيئته بلا حدود، وهو يوافق على لقياك، فلماذا لا تبثين له شكواك وتسألينه سبحانه المعونة بتلمس أوقات الدعاء المستجاب وزيادة الصدقات؟
وكأن هذه الداعية انتشلتها من حيرتها فقررت الرجوع إلى زوجها والاستعانة بالله، وكأن الدنيا حيزت له عند رؤيته لزوجته مرة أخرى، واتفق الاثنان على كفالة أحد الأيتام قربة من المولى، والاجتهاد في الفرائض ناهيك عن النوافل، وأن يتشاركا في قيام الليل، وأخرجته من حالة اليأس التي كان يعاني منها، وجعلا اهتمامهما الأول رضا المولى عنهما، وانزوى موضوع الإنجاب عن بؤرة الاهتمام، وأصبحت السعادة تمثل لكل منهما بسمة ترسم على وجهٍ قدما له مساعدة، وانشغلت هي وهو بحفظ القرآن، وقالا: لنحفظه حتى نحفّظه لأولاد المسلمين جميعاً، لعل الله يرزقنا بمثلهم.
وكان الاهتمام برضا الله قد غيّر لديهما أسباب السعادة فنهلا منها واغترفا، وفي أحد الأعياد أراد الشاب أن يسافر إلى حيث يقيم اليتيم الذي يكفله حتى يعطيه هدايا العيد بيديه، ويراه في موطنه، ويطمئن قلبه عليه، وبالفعل سافر إلى حيث اليتيم، وبعد أن مسح على رأسه تلبية لوصية رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، وغمره بالحنان والود أخرج هداياه ليعطيها له، فمد اليتيم يديه الصغيرتين لتلقي الهدايا، وهنا اغرورقت عينا الشاب بالدموع التي انهمرت انهماراً، وحدث الله في نفسه بأسرار لا يمكن أن يطلع أحد عليها سواه سبحانه: «يارب، هذا اليتيم مد يديه الصغيرتين فلم تخذله بتسخيري لرعايته، وأنا أمد لك يديّ الصغيرتين راجياً إياك أن تهب لي مثل هذا الولد، وأنت سبحانك لا يسخرك أحد ولا يعجزك شيء»، وانتهت رحلته وعاد إلى وطنه، وقد أنست نفسه واعتادت على أن الله قبل كل شيء في حياته، ولم ينقض الشهر إلا وزوجته حامل، وهي الآن في شهور الحمل الأولى، وقد نشر الخبر الدهشة على وجوه الاختصاصيين، ولكن رؤسهم تهتز ولسانهم يردد: {… إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ “20”}(البقرة).
تغيرت اهتماماتهما، فاختلفت أسباب سعادتهما حتى شاء سبحانه بالعطاء.