تطالعنا الدول والحكومات من وقت لآخر بمشاريع قوانين جديدة تعزز برأيهم من مكانة المرأة، وتحقق مبدأ المساواة والمناصفة بينها وبين الرجل، ولعل أحدث التغييرات في هذا المجال التعديل الذي طرأ على الدستور المغربي، والدستور التونسي، فنص (الفصل 19) من الدستور
تطالعنا الدول والحكومات من وقت لآخر بمشاريع قوانين جديدة تعزز برأيهم من مكانة المرأة، وتحقق مبدأ المساواة والمناصفة بينها وبين الرجل، ولعل أحدث التغييرات في هذا المجال التعديل الذي طرأ على الدستور المغربي، والدستور التونسي، فنص (الفصل 19) من الدستور المغربي على وجوب أن “يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية”.
ولتحقيق هذه الأهداف ألزم الدستور في الفقرة الثانية من الفصل نفسه الدولة بـ”تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال والنساء، وتحدث لهذه الغاية، هيئة للمناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز”.
وكذلك نص الدستور التونسي الصادر في عام 2014م في (المادة 45) على ما يلي: “تلتزم الدولة حماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها. تضمن الدولة تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل في مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات. تسعى الدولة إلى تحقيق المناصفة بين المرأة والرجل في المجالس الانتخابية. تتخذ الدولة التدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضد المرأة”.
أما أحدث تغيير دستوري، فهو المزمع حصوله في الدستور الجزائري الجديد في (المادة 31 مكرّر) التي تنص على عمل الدولة من أجل “تجسيد المناصفة بين الرجل والمرأة كغاية قصوى وكعامل لتحقيق ترقية المرأة وازدهار الأسرة وتلاحم المجتمع وتطوّره”.
وقد أثار هذا التعديل موجة من الاستنكار لدى الجزائريين الذين رأوا فيه تعارضاً مع الشريعة الإسلامية؛ ذلك أنه لا يكتفي بحصر المناصفة فيالمجالس المنتخبة، علىغرار ما أقره الدستور التوافقي التونسي، ولكنه يجعله في كل مناحي الحياة بما فيها قوانين الأسرة.
الخطوات الدولية السابقة لإقرار هذه القوانين
إن المتتبع للخطوات الدولية في مجال حقوق المرأة يدرك بأن هذه الخطوات التصعيدية في تعديل القوانين لا تأتي من فراغ، بل تأتي تنفيذاً لخطة الأمم المتحدة التي بدأتها في العقد المخصص للمرأة (1975- 1985م) تحت رفع شعار “المساواة والتنمية والسلام”، وتبعه بعد ذلك مؤتمرات دولية عديدة تكرس هذا المبدأ، بدءاً بمؤتمر “مكسيكو سيتي” عام 1975م، إلى مؤتمر “بيجين” عام 1995م وتوابعه، الذي فرض في توصياته أجندته الدولية على الدول عبر دعوتها لتعديل قوانينها الداخلية حتى تتناسب مع التوجهات الدولية.
وكان من بين القوانين التي دعت المؤتمرات والاتفاقيات الدولية إلى تعديلها تلك المتعلقة بتحقيق مبدأ المساواة التامة والتطابقية بين الرجل والمرأة داخل الأسرة، بما في ذلك إلغاء طاعة الزوجة لزوجها، وإلغاء الولي، والتساوي التام عند عقد الزواج، والطلاق، وفي التعدد والميراث.
الخطوات المحلية والإقليمية لإقرار القوانين
إن مما يمكن ملاحظته عبر متابعة كيفية صدور التعديلات التشريعية المتعلقة بالمرأة، أنها ترافقت مع تحركات للمجتمع المدني بشكل عام، والحركات النسوية بشكل خاص، التي رفعت لواء التغيير، وعملت بجهد على تعديل بعض القوانين المحلية، ومن بينها تلك التي وردت في مطلع المقال.
على أنه وعلى رغم الجهود المبذولة من أجل إحداث التعديل؛ فإن المطالبة بالمناصفة وتحديدها في القوانين أمر اعتبرته الحركة النسوية أمراً يتطلب الكثير من الوقت والنفس والنضال، لذلك كانت المطالب في كثير من الدول العربية تقتصر على تطبيق بنود الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة التي وقَّعت عليها معظم الدول العربية بعد أن وضعت تحفظاتها عليها، وعلى رأسها اتفاقية “سيداو” التي تدعو إلى تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها، وكذلك إلى إصدار بعض التعديلات الجديدة التي تكرس مبدأ يسمى بـ”التمييز الإيجابي”، ويقصد به: “كل عمل تقوم به الحكومة أو مؤسسة خاصة لتعويض جماعة عن تمييز حصل في السابق علي أسس اختلاف النوع، العرق، الأصول الإثنية، الدين أو العجز عن الدراسة، الوظيفة، المشاركة السياسية”، ومن نماذج هذا النوع من التمييز إقرار ما يسمى بـ”الكوتا” النسائية؛ وهي نسبة مئوية في المجالس التشريعية والتنفيذية تتراوح بين 10 – 30%، وهذا الأمر وإن أقر في بعض الدول العربية والأجنبية على حد سواء، إلا أنه لم يحدث أن وصلت المرأة إلى العدد المطلوب؛ مما يثير الاستغراب حول سبب القفز في المطالب من “الكوتا” إلى المناصفة دفعة واحدة.
وفي ختام موضوع الخطوات المحلية والإقليمية، من المهم الإشارة إلى دور بعض التكتلات الإقليمية التي بدأت تتجرأ في المطالبة بالمناصفة في القوانين، من هذه التكتلات التحالف الإقليمي “مساواة دون تحفظ” الذي تأسس في الرباط في يونيو 2006م، بهدف حثّ الحكومات العربية التي لم توقع بعد على اتفاقية “سيداو” على الانضمام إليها، وحثّ الدول الأطراف فيها على رفع تحفظاتها، والانضمام للبرتوكول الاختياري الملحق بها، وملاءمة تشريعاتها الوطنية مع مقتضيات الاتفاقية، ويضم التحالف في عضويته منظمات نسائية، ومنظمات حقوق الإنسان من أغلب البلدان العربية، إضافة إلى أعضاء الفيدرالية الدولية لرابطات حقوق الإنسان.
وقد قام هذا التحالف في أعقاب اجتماع اللجنة التنفيذية في مارس 2014م بعرض أهم الإنجازات المحققة، لاسيما في الدساتير الجديدة لبعض البلدان، وكان من أبرزها رفع بعض التحفظات عن اتفاقية “سيداو” وعلى رأسها التحفظ على (المادة 16)، كما هي الحال في المغرب، وقد أصدر التحالف “إعلان الرباط الثاني” ( 13 مارس 2014م) الذي دعا إلى إدراج حظر التمييز على أساس الجنس والمساواة، والمناصفة بين الرجال والنساء في الدساتير، وفي القوانين الوطنية، وفي مختلف السياسات العمومية.
أخطار الدعوة إلى المناصفة
إن المطلع على الدعوة للمناصفة التي يحاول أصحابها تطبيقها يتنافى مع ما وصلت إليها المرأة نفسها في تلك الدول التي تصدر إملاءات على دولنا، ففي المجال السياسي مثلاً الذي قطع الغرب فيه أشواطاً كبيرة ما زالت تمثيلية المرأة ضعيفة مقارنة بالرجل، فلم تتولَّ امرأة في فرنسا أو أمريكا أو إيطاليا حتى الآن منصب الرئاسة، أما المشاركة في المجالس التنفيذية والتشريعية فهي تتراوح بين 15 – 30% كحد أقصى دون الوصول إلى حد المناصفة؛ والسبب في ذلك يعود إلى أن “المرأة في الغرب عندما تخوض غمار النشاط السياسي لا تفعل ذلك من منطلق كونها أنثى بل باعتبارها مواطنة لها كامل الحقوق وعليها كامل الواجبات مثلها في ذلك مثل الرجل”.
وهذا الموقف تؤيده كثير من النساء العربيات، منهن “أمينة ماء العينين” التي تقول حول مبدأ المناصفة: “بخصوص المناصفة إذاً لن يشرفنا كنساء أن يكون منتهى نضالنا انتزاع مناصب بمقاربة كمية عددية لكوننا نساء ولا شيء غير ذلك، أي أن نحظى بمنصبين من أصل أربعة مناصب، لا لشيء إلا لأننا ولدنا نساء”.
إن هذا الأمر يجعلنا نقف عند هدف خطير يصبو إليه دعاة المناصفة، وهو تهميش الدين في حياة المرأة المسلمة واستبداله مع مرور الوقت بالقوانين المحلية، فآية الإرث التي تمكن الرجل من ضعف حصة المرأة: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ) (النساء:11)، في نظر البعض عنوان صارخ على ظلم الدين للمرأة، وتبخيس لحقها المادي والمعنوي، وضرب صارخ لمبدأ “المناصفة”؛ لذلك رفعت الأصوات وما زالت ترفع من أجل تعديل هذا الحكم الشرعي عبر تحقيق مبدأ المناصفة، إما عبر إقرار مثل (المادة 31) أو عبر إصدار قوانين زواج مدنية تقر هذا الأمر في عقودها.
نقطة أخيرة لا بد من التأكيد عليها؛ وهي أن أمثال هذه القوانين التي تصدر بغفلة عن الشعوب، لا يمكن أن تشكل حلاً للمرأة العربية والمسلمة، إذا فرضت المناصفة يمكن أن تصل بالمرأة غير الكفء إلى مفاصل أساسية في الدولة خاصة بغياب اهتمام المرأة عامة بهذه الأمور، لذلك فالحل الأمثل يكون بإنصاف المرأة باعتبارها شريكاً في الوطن وفي الأسرة لها حقوق وعليها واجبات، ويكون أيضاً بترك الحرية للمرأة، دونما أن نجعل من هذه النصوص سبباً للصراع بين الرجل والمرأة، وأن الرجل هو عدو المرأة والسبب في كل ما يصيبها من أذى، أو أن تتحول المرأة ذلك العدو للرجل الذي ينافسه في منصبه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويصبح نسيجنا الاجتماعي كله في خطر، خطر الدفع إلى مجتمع لا شكل له ولا لون ولا هوية.
——————————————————
(*) أستاذة بجامعة الأوزاعي اللبنانية