أحد الفنون المهمة في إدارة المجتمعات القمعية هو إيجاد مسارات بديلة لتفريغ الغضب الشعبي المتنامي تجاه تلك الأنظمة
أحد الفنون المهمة في إدارة المجتمعات القمعية هو إيجاد مسارات بديلة لتفريغ الغضب الشعبي المتنامي تجاه تلك الأنظمة.. إن الأنظمة السلطوية الشعبوية عادة ما تأتي محمولة على أعناق “الجماهير”، ولكنها تلك الجماهير التي تم توجيه وعيها بعبارات ضخمة عن الوطن، وخلق حالة “شيفونية” عامة، والضرب على أوتار الخوف من المجهول أو المعلوم، ولا جدال أن كل الأنظمة حتى التي تبدو لنا ديمقراطية تمارس هذا النوع من توجيه الوعي، ولكن في النظم الشعبوية يكون الأمر أكثر حدة وتطرفاً وعنفاً، ويزيد الغضب داخل الأنظمة الشعبوية بمعدلات متسارعة؛ مما يجعلهم دائماً يبحثون عن وسيلة لإدارة هذا الغضب، وعند الفشل يبدؤون في إيجاد وسائل بديلة لتوجيهه أو تفريغه.
إدارة الغضب كانت متجلية في بدايات ثورة يناير في 2011م والتي أؤكد دائماً أنها مستمرة حتى الآن؛ وأحد تجليات استمرارها هو الانقلاب العسكري نفسه، عندما فشل في إدارته فبدأ في توجيهه تجاه عدو مزعوم، ثم عادت وفشلت مرحلة إدارة الغضب في تحطيم الثورة بعد جهود مضنية، فبدأ الآن في محاولة توجيهه ولكن تجاه معارك وهمية لا يعنيه الانتصار فيها؛ حتى يشتت الغضب إلى بالوعات النصر الزائف.
نعود إلى إدارة الغضب الأولى؛ عندما خرجت الأمور عن السيطرة، استغل العسكر كل الأحداث لتحقيق هدفه في تغيير معادلة السلطة التي كانت ستؤدي إلى صراع لا جدال فيه بين المؤسسة العسكرية وبين مجموعة “جمال مبارك” التي كانت مسيطرة على الكثير من مفاصل الدولة، وبين التحية العسكرية للشهداء من أحدهم، وتضميد جراح المصابين من الآخر، وحماقة الكثيرين، حقَّق العسكر مراده وأزاح من أراد بأذرع غيره، وبقي “نظيف اليد، طاهر السريرة، لم تلوث يده بالدماء”.. فهناك دائماً شريك صامت يحمل كل الجرائم حتى تأتي اللحظة التي سيحمل عدو العسكر اللدود بكل الجرائم. وظن أنه انتصر عندما وجه الغضب لمصلحته، وهذا لقناعته أن ما حدث في يناير هي مجرد أحداث، ولكنها في الحقيقة كانت مقدمات ثورة تسعى أن تكتمل.
عاد إلى تفريغ الغضب بعد “أحداث محمد محمود” في ملحمة انتخابية استمرت ما يقرب من أربعة أشهر، وظن ثانية أن الأمور دانت له، ولكنه فشل مرة ثانية، وعاد الغضب يتراكم، وحاول إعادة توجيهه لعدوه اللدود (تيار الإسلام السياسي)، واضطر إلى قبول الضربة الموجعة بخروج مقعد الرئاسة من بين يديه، ولكنه عاد ليوجه الغضب العارم من ظلم السنوات الطوال التي حكم مصر فيها ناحية عدوه اللدود، ونجح في مسعاه، ولكنه اضطر إلى استخدام القوة المفرطة والانقلاب العسكري المعلن؛ نظراً للقوة العارمة لعدوه اللدود والمفاجأة غير المتوقعة باستمرار التيار الإسلامي بكافة طوائفه في المواجهة.
طوال محاولات إدارة الغضب وتوجيهه حتى الانقلاب العسكري لم يكن الصراع معلناً ولا مفتوحاً، وكانت هناك مجالات واسعة لتوجيه الغضب الشعبي المتراكم طوال فترة حكم العسكر منذ الانقلاب الأول في عام 1952م، أما بعد الانقلاب وحدوث خط واضح بين اتجاهين متصارعين ويتجهان كليهما إلى معادلة صفرية للصراع؛ فلن يستطيع أحد الطرفين إدارة الغضب ضد الآخر؛ لأن المساحات الرمادية اختفت أو كادت، وأصحاب الفتن اختفوا من ملعب الصراع ولزموا بيوتهم، وأصبح الأمر جلياً أن من أصبح هنا سيبقي هنا، ومن أصبح هناك سيبقي هناك.
واقتربت لحظة المواجهة الشاملة نظراً لزيادة الغضب لدرجات غير مسبوقة داخل الطرف المقاوم للانقلاب، وازدادت كتلته ووصلت إلى ذروتها، وفي انتظار تلك اللحظة لابد من تفريغ الغضب في معارك وهمية بعيداً عن نقطة الصدام المباشر القادمة والتي ينتظرها الجميع.
إذاً عليك بخلق معركة جانبية تجعل الطرف المهزوم يشعر بلذة انتصار زائفة؛ فتطفئ لذة الانتصار الزائف جذوة الغضب من الكارثة الحقيقية، ولا مانع من أن تجري بعض الإجراءات التي ترسخ لهزيمتك في تلك المعركة الوهمية.
إذاً على الطرف المقاوم أن يحدد قضيته جيداً، ويوجه غضبه بنفسه، ولا يجعل الطرف الآخر أن يسحبه لمعركة جانبية تشعره بانتصار زائف يسحب من رصيد قوته الدافعة في معركته الرئيسة.
إن معركة ملصق “هل صليت على النبي اليوم؟” نموذج لتلك المعارك الجانبية والتي – وإن لم يكن العسكر صانعيها – فقد قاموا بتوجيهها لتصب في مصلحتهم؛ فلا مانع من أن يشعر المقاومون بنصر في تلك المعركة، ولا مانع من أن نصدر قرارات تدل على رفضنا لها، ولا مانع أيضاً من نشر أخبار عن ضباط يساعدون في نشر الملصق لتزيد من نشوه انتصار الطرف الآخر، ولا مانع من أن ينتشر الملصق بصورة أكبر.. ولكننا نحن في النهاية المنتصرون، وحققنا هدفنا بتفريغ الغضب في بالوعة النصر الزائف وأبعدناه عن نقطة الصدام القادمة.
في إدارة الصراع، لابد أن تحدد أبعاده ولا تلتفت أبداً عن طريقك الذي رسمته، ولا تنخدع بالنصر في المعارك الجانبية، ولا تجعل الطرف الآخر يحدد لك خطواتك أبداً.
إن الطاقة الهائلة التي بذلت في هذه المعركة بالتأكيد انتزعت من طاقة المعركة الكبرى؛ معركة العدالة والحرية والهوية، وعند الانتصار فيها سنصلي على الرسول الأعظم ليل نهار في الطرقات التي سرنا فيها تحت طلقات الرصاص والمساجد المغلقة، وعلى صفحات الجرائد، وعلى شاشات التلفاز؛ وربما ستكون الحرية.. والحرية فقط، هي ما ستجعلنا نصلي على الرسول الأعظم، ونحن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم فخور بتابعي تابعيه الذين قاوموا في الطريق الصحيح لحماية هوية أمتهم وحرية شعوبهم.
يقول المفكر الكبير مالك بن نبي في كتابه “الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”: “إن خبراء الإعلام والحرب الفكرية في الغرب يطبقون على المسلمين نظرية “الاستجابة الشرطية” التي صاغها عالم النفس الروسي “بافلوف”، فهم يستفزونهم من وقت لآخر حتى يشغلونهم عن التخطيط الإستراتيجي، والعمل المنهجي، ويستنزفونهم في ردود الأفعال الغاضبة التي تفور فجأة، ثم سرعان ما تذبل وتتلاشى، ونظراً لهيمنة العواطف على تفكير المسلمين اليوم فليس من الصعب التنبؤ بنوع ردود أفعالهم على هذا الاستفزاز أو ذاك”.
يبدو أننا بحاجة إلى إضافة “وأذنابه” على كلمة الغرب في عبارة هذا المفكر الفذ.
————————————————
(*) قيادي بحزب “الوسط” وتحالف دعم الشرعية