فرنسوا دا لنسون
مقاومة تنظيم الدولة يعيد توزيع الأوراق داخل النخب الشيعية العراقية، فمع وجود المليشيات المدعومة من قبل إيران، يصر آيات الله العظمى على الوحدة الوطنية.
على بعد 30 متراً من ضريح الإمام علي، يشتغل العمال وسط فناء دار العلم التي بدأت تأخذ شكلها النهائي، هذه الدار المصممة من قبل فريق من المهندسين المعماريين العراقيين والإيرانيين والتي سيتم تدشينها في عام 2016م لترحب بالدفعة الأولى من الطلاب.
بنيت هذه الدار في موقع لمدرسة دينية سابقة والتي تأسست عام 1970م من قبل الإمام الخوئي، ودمرت في عام 1990م من قبل جيش الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ويقود المشروع جواد الخوئي، نجل آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، الذي توفي في عام 1992م.
وستضم هذه الدار أيضاً مركزاً للدراسات الدينية المقارنة وللحوار بين الأديان، ومكتبة، وقاعة للصلاة، وصالة رياضية وحماماً ومبيتات.
العراق بحاجة إلى تطوير دولة مدنية وليست دينية
وقال جواد الخوئي: نريد توفير تعليم رفيع المستوى فيه روح التسامح واحترام الأديان الأخرى، مضيفاً: العراق بحاجة إلى تطوير دولة مدنية وليست دينية، على أساس المساواة بين مواطنيها، ودولة حامية لتنوع البلاد العرقي والثقافي والديني.
جواد الخوئي البالغ من العمر 34 عاماً والمتحصل على الدكتوراه في العلوم الإسلامية في الجامعة الإسلامية في عمَّان، يجسد شكلاً من أشكال الطليعة الواعية من المذهب الشيعي العراقي، وهو من أتباع المدرسة التقليدية “الأهدأ” (التي ترفض قيام نظام “ولاية الفقيه” في العراق) مقابل النموذج الخميني الذي دفع برجال الدين الشيعة إلى مركز السلطة في طهران.
وبحسب هذا التقليد، فإن علي السيستاني وثلاثة آيات الله الكبرى الأخرى في النجف يوفرون مجرد “القيادة والتوجيه” دون التدخل في السياسة والحكم في البلاد.
النجف مركز جذب للطلاب في العلوم الدينية
الفنادق ومراكز التسوق ومؤسسات ومدارس دينية ومكتبات ودور للنشر؛ فبعد أحد عشر عاماً من سقوط نظام صدام حسين، أصبحت النجف واحدة من أهم مراكز جذب الطلاب في العلوم الدينية والحجاج في العالم الإسلامي.
وهي أيضاً مقر لأهم الشخصيات الشيعية؛ أولهم آية الله العظمى علي السيستاني، ووجودهم يعطي المدينة دوراً خاصاً، فبعيداً عن القصور في بغداد وساحات القتال، يعيش الزعيم الروحي للشيعة في عزلة وفي منزل متواضع، في شارع تحت حراسة رجال مسلحين.
وبعد تدخل الولايات المتحدة في عام 2003م وسقوط نظام صدام حسين، دعا علي السيستاني إلى إجراء انتخابات قبل العودة إلى القضايا الداخلية.
وحدات التعبئة الشعبية
في يونيو 2014م، اضطر الهجوم الإرهابي السُّني في محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك لخروج علي السيستاني من عزلته، وقال محمد القريشي، أستاذ في جامعة الكوفة: هدد تنظيم “داعش” بالسيطرة على بغداد والنجف وكربلاء، هذه الصدمة النفسية التي ذكرت الشيعة بجرائم صدام حسين.
وتحت ضغط الشارع، ورئيس الوزراء نوري المالكي وإيران، أصدر علي السيستاني في 13 يونيو 2014م فتوى تحث العراقيين على حمل السلاح للدفاع عن الدولة ضد التكفيريين، ورداً على هذه الدعوة، انضم عشرات الآلاف من الشبان الشيعة إلى وحدات التعبئة الشعبية.
في 9 يوليو، جدد آية الله العظمى دعوته في رسالة إلى قادة حزب الدعوة الشيعي، داعياً إياهم إلى الإسراع في اختيار رئيس وزراء جديد يحظى بدعم وطني واسع، وكانت هذه الدعوة تحذيرية، إن لم تكن دعوة لاستقالة رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي تم استبداله بعد بضعة أسابيع بحيدر العبادي.
فتوى السيستاني
لم يرق النشاط غير المسبوق لآية الله العظمى لبعض القادة، ويبرر جواد الخوئي ذلك قائلاً: لم يكن لعلي السيستاني أي خيار، فالوضع يفرض نشر هذه الفتوى على الرغم من أن البعض استغل الفرصة لتحقيق مصالحه الخاصة.
ويخشى علي السيستاني وبطانته من طغيان الشاب مقتدى الصدر وغيره من المتدينين الشيعة الأكثر راديكالية، أو من سيطرة الفصائل السياسية الشيعية القريبة من النظام الإيراني.
فقد خرج من سيطرته نجاح التعبئة الشعبية ليستغلها الميليشيات الشيعية التي تدعمها طهران، ومنذ ذلك الحين، لم يفتأ علي السيستاني للدعوة إلى ضبط النفس أمام مخاطر الحرب الطائفية.
تجاوزات القوات شبه العسكرية الشيعية
رداً على الأعمال الوحشية التي ارتكبتها القوات شبه العسكرية الشيعية في المناطق التي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة، أصدر علي السيستاني في 12 فبراير 2015م سلسلة من التوصيات للمقاتلين في ساحة المعركة، طالباً منهم عدم السعي للانتقام وحماية حياة وممتلكات الأبرياء، مهما كانت.
حتى إن ممثله في كربلاء، عبد المهدي الكربلائي، دعا القوات المقاتلة لرفع علم العراق في المناطق المحررة، عوضاً عن رفع صورته، ويعترف آية الله رياض الحكيم، نجل آية الله العظمى محمد سعيد الحكيم، أن المليشيات الشيعية أعطت صورة سيئة عن التعبئة الشعبية، مضيفاً: إن المتطوعين الذين تم حشدهم ليسوا خارج القانون، ولكنهم مقاومون تحت سيطرة الدولة والجيش والشرطة.
ولا يزال الزعيم الروحي للشيعة العراقيين يؤكد دعم الدولة العراقية ووحدة البلاد، فبعد التصدي لتهديد تنظيم الدولة، يعتقد أنه يجب على هذه الدولة ضم المليشيات إلى الحرس الوطني لمساعدة الشرطة والجيش في المهمات الأمنية.
مواجهة النفوذ الإيراني
بعد مرور عام من ظهور تنظيم الدولة، وبروز المليشيات الشيعية، رأس الحربة في “التعبئة الشعبية”؛ ما أخل بتوازن القوى داخل النخب الشيعية، يرى المحلل السياسي سعد سلوم أن المواجهة مع تنظيم الدولة أعاد توزيع الأوراق في الصراع على السلطة داخل النخب الشيعية، مضيفاً: إن قادة المليشيات، وبفضل شعبيتهم المتزايدة التي حققوها على أرض المعارك، يمكنهم أن يلقوا بظلالهم على الزعماء السياسيين الفاسدين، ولن يكون لخليفة السيستاني بالضرورة نفس السلطة الدينية والأدبية لمواجهة النفوذ الإيراني.
معركة من أجل خلافة علي السيستاني
بدأت في النجف المعركة من أجل خلافة علي السيستاني، البالغ من العمر 84 عاماً، ولا يبدو أن أياً من آيات الله الكبرى الثلاث الأخرى قادر على خلافته، ويبدو أن ظهور مرجعية دينية جديدة قد يستغرق وقتاً طويلاً.
آية الله محمود هاشمي الشاهرودي، البالغ من العمر 64 عاماً، وأحد أقرباء علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني، هو من بين المؤثرين والمكلف من طهران لتمهيد الطريق لشخصية تتوافق مع النموذج الديني الخميني.
في نهاية المطاف، فإن مسألة دور السلطة الدينية في النجف، منفصلة تقليدياً عن الحالات الطارئة السياسية ستأخذ قسطاً من الراحة، ويقول رياض الحكيم: سنحافظ دوماً على مسافة مع السياسة للحفاظ على استقلالنا ونفوذنا، مضيفاً: إن المؤمنين يعهدون إلينا بحياتهم، وبمالهم ورعايتهم الروحية، ونحن نرغب في الكسب المستدام لعقولهم وقلوبهم، وليس من خلال أخذ مكان السياسيين سنتمكن من تحقيق ذلك.
صحيفة “لاكروا” الفرنسية
http://www.la-croix.com/Actualite/Monde/A-Nadjaf-en-Irak-les-delicats-equilibres-de-l-ayatollah-Sistani-2015-05-28-1316924