السفير د. عبدالله الأشعل
لم يعد خافياً أن اللغة العربية في مصر دخلت أزمة انحطاط خطيرة، وأهم مظاهر هذا الانحطاط أن القيادات السياسية العليا والحزبية لا تحسن النطق، كما لا تحسن القراءة أو كتابة جملة مفيدة، ناهيك عن الارتباك عند كل حديث حتى لو كان مكتوباً.
المستوى الثاني هو القيادات الإعلامية والصحفية بمن فيهم كتَّاب الصحف الكبرى، فضلاً عن صياغة الأخبار والأحداث خاصة في الصحف الخاصة الحزبية وغيرها.
والمستوى الأول والثاني قدوة للناس خاصة لمن لم تتح له فرصة التعليم أصلاً؛ لأن الريادة عنده لا تتجزأ وتشمل صحة اللغة أيضاً.
أما المستوى الرابع فهم موظفو الحكومة بمن فيهم الدبلوماسيون، والمستوى الثالث يشمل أساتذة الجامعات، وأما مدرسو المدارس ومنهم مدرسو اللغة العربية فالانحطاط في اللغة في أغلبهم، اعتاد الناس أن يدققوا في لغة خريجي الكليات النظرية ويلتمسون العذر لخريجي الكليات العلمية، وهذا صحيح جزئياً، لكن انهيار التعليم واللغة الأم هو الكارثة التي تحتاج من جيش أساتذة اللغة والأزهر والتربية دراستها واجتراح الحلول الناجعة لها، صحيح أن هناك جمعيات لحماة اللغة، وربما أكون مقصراً في تتبع جهودها، لكن لا أجد عملياً أي تحسن، بل الانحطاط وهيمنة لغة العامة والشارع على صحيح اللغة هو طوفان جديد.
وقد نشرت الصحف أن ربع مليون تلميذ حصلوا في الإملاء على درجة الصفر، وأنا أضيف أن 99% على الأقل من خريجي الجامعات خاصة الجامعات الخاصة بل وكليات القمة لا يجيدون الإملاء والصرف والنحو، وكانت النتيجة أن بعض هؤلاء إذا دخل مجال الأدب، اهتم بالخيال الأدبي وأغفل الجسر الذي يحمل هذا الخيال وهو اللغة.
فكيف نحل لغز الطالب المتخرج في إحدى كليات القمة النظرية في السياسة أو الاقتصاد، ولا يجيد كتابة الإملاء، بل يعتبر بعض مصطلحات اللغة الصحيحة ومفرداتها أخطاءً يقوم بتصحيحها بأخطائه الفادحة، وقد ظننت في البداية أنه استغرق في اللغات الأجنبية، فلم يعد للغة العربية مكان في اهتمامه، فراعني أنه لا يعرف أي لغة أخرى، وأنه قادم من إحدى المحافظات ومن مدرسة حكومية ومن المتفوقين في الثانوية العامة وخلال سنوات الكلية ويتابع بفخر واعتزاز دراساته العليا حتى إذا حصل على الدكتوراه انضم إلى قائمة الخريجين الذين يظن بهم العلم في علمهم والإحاطة بلغتهم فإذا هم ينشرون الجهل بالعلم واللغة أينما ذهبوا.
قد يكون عذر الطالب في الجامعات الخاصة أن هذه الجامعات شركات تجارية تهدف أساساً إلى تعظيم هامش الربح، وهو الفارق بين تكاليف التدريس، ومصروفات الدراسة التي يدفعها الطالب فتستعين بالأساتذة الذين لا يجيدون علمهم ولا يجدون عملاً بأرخص الأسعار، فلا يتلق الطالب إلا جهل هؤلاء الأساتذة، وبالطبع فإن حل مشكلة الجامعات الخاصة هو إلغاؤها ولكن بعد وضع إستراتيجية تعليمية صحيحة تمكن الطالب النابه وحده وليس القادر مادياً من مواصلة تعليمه.
واتصالاً بهذه النقطة، فقد حظرت نقابة المحامين قيد خريجي كليات الحقوق بنظام الجامعة المفتوحة، وهذا موقف سليم، لكنه يعوزه أمران: الأول هو أن القرار قائم على افتراض غير صحيح، وهو أن طالب الجامعة المفتوحة أقل كفاءة وعلماً من طالب الجامعة النظامية، فما الفرق بين الجامعة المفتوحة ونظام الانتساب، وعندي أن الجامعة المفتوحة أفضل من نظام الانتساب، لولا أن الجامعة المفتوحة تقبل كل الطلاب من التعليم الثانوي والمتوسط ممن لا تسعفهم قواعد القبول في الجامعات، ولكنهم حريصون إما على استكمال التعليم، وهذا وارد نسبياً، وإما على حيازة شهادة لتحسين أحوالهم الوظيفية.
أما الأمر الثاني، فهو أنه يجب أن تتوافق البدايات مع النهايات، فإذا كانت الدولة قد تبنت التعليم المفتوح، فقد أقرت المساواة في مستوى الشهادة مع زميله، والمساواة في الانضمام إلى النقابات، وعندي أن امتحان اللغة العربية يجب أن يكون شرطاً لانضمام المحامي إلى النقابة.
فالحلول والاجتهادات التي تركز على طرق إصلاح اللغة مطلوب، رغم أنها جزئية، ولكن لا يمكن إصلاح اللغة بمعزل عن إصلاح حركة المجتمع بداية بالتعليم، ولا مفر من البحث عن تطور تفكك اللغة والمناخ الثقافي الذي انحدرت فيه اللغة، وقيم المجتمع التي انحطت لدرجة أن التباهي بقتل اللغة صار ميزة اجتماعية ودليلاً على المدنية، خاصة مع تزايد عقدة الدونية حتى في المحيط العربي.
ولاشك أن الحرب الخفية ضد الإسلام أثرت على اللغة؛ نظراً لأن اللغة حفظت طوال هذه القرون لأنها لغة القرآن الذي به تستقيم اللغة ويصح التفكير، لكنني عجبت أن بعض أئمة المساجد ممن يحفظون القرآن يخطئون في اللغة في خطبهم، ولكن ذلك الجانب يقتضي استبعاد هؤلاء أو إصلاحهم ولا يقدح في القاعدة العامة، وهي أن البداية تكمن في تعلم القرآن ولغته وقراءته، فمن العار في دولة إسلامية ألا يحسن أبناؤها في المستويات السابق إيضاحها القراءة والنطق والخط وهو من لوازم اللغة.
ونحن في مصر ننفرد دون سائر الناطقين بالعربية بانحطاط اللغة، فلا يغرب عن المراقب العلاقة بين هذا الانحطاط والوضع العام في مصر.
والغريب أن الناطقين باللغات الأخرى لا يخطئون في لغاتهم، ويحرصون على إتقان لغتهم اعتزازاً بهويتهم.
والخلاصة أنه لابد من معالجة ضعف اللغة في كل الأطر بما فيها إصلاح التعليم، كما يجب الاهتمام بالإسراع بمعالجة الوضع الذي انحدرت إليه اللغة مع الثقافة وغيرها، ومن المفيد أن تعمد مجموعة من المصلحين إلى متابعة تدني اللغة في كل القطاعات، وإعلان الأخطاء يومياً على موقع خاص بها.