برجان طوطار*
تقوم العقلية الشرقية المستغرِبة الإستعمارية، التي تعمل بنفس آلية القوة الغربية، بشكل أساسي وعلى الدوام بتنفيذ هجماتها الأخيرة برصاص العسكر. وأكبر مثال ودليل على ذلك، كما بيّنت صحيفة نيويورك تايمز الصحيفة الرئيسية للإدارة الأمريكية، قيام كل من صحيفة زمان وحريت وبيجون بدعوة الناتو للتدخّل ضد أردوغان.
ليس هناك أي شي متغيّر، الحال كما هو في الماضي؛ المستعمرون الغربيون والمقرّبون لهم من ناحية المنهج{ المستغربون المحليّون} من جديد يداً بيد.
كما هو الحال في الماضي؛ ممثلو “طريفي”{مفكّر تركي مستغرب تاريخي} وأحمد جودة وأحمد حسين وأحمد لطفي السيد في يومنا الحالي؛ أوزكوك، توركونا، الجولانيون، باموك، طارق حجي، سليمان البستاني، و “الهاميريين”{ هامير مفكر نمساوي تاريخي} وممثلو العقلية الغربية ؛ جيب، جوليوس، فوكوياما، هنتجتون، برزيزسينكي، زيزكا، يهاجمون دولتنا وقائدها وقيمنا الثقافية من الداخل ومن الخارج من نفس المواقع وبنفس الدوافع السياسية.
ففي السابق كان المفكّرون الأوروبيون أمثال الهولندي جوليوس {1596ـ1667} والنمساوي فون هامير {1774ـ1856} والاسكتلندي إلياس جيب {1857ـ1901}، الذين كانوا يستهدفون الأبطال العثمانيين، مثل السلطان محمد الفاتح والسلطان عبد الحميد الثاني، الذين أفسدوا المصالح الأوروبية المستهدِفة للأراضي العثمانية، والمستغربون في ذلك الوقت الذين يمثّلون جريدة زمان وحرييت وأيدن دوغان وأكرم دومانلي في وقتنا الحالي، لاطيفي وعاشق شلبي يهاجمون الدولة العثمانية وقوادها ويظهرون الناس المتوافقين معهم من ناحية المنهج والفكر كمراجع ووثائق لهذه الهجمات، في حين لم يستطيعوا إيجاد هذا القبيل من المراجع والوثائق و كانوا يختلقون جميع مايحلوا لهم، ويُظهرون أنفسهم كمراجع لهذا الاختلاقات والتأليفات.
ومن الأمثلة على أصحاب العقلية الاستعمارية الحديثة السالكة لنفس درب أجدادها ؛ مجلة ذا أكنوميست التي قامت في عددها الأخير بعد مشاهدتها هول وعظمة “مهرجان الفتح” بدعوة العالم الغربي إلى إنهاء هذه المأساة الممتدّة لستة قرون والتي بدأت مع سقوط اسطنبول. كما قامت بتوجيه انتقاد عنيف اللهجة للقوة الغربية التي، حسب رأيها، أضاعت عام 1922 أنسب الفرص في إمكانية استعادة اسطنبول وضمّها إلى العالم المسيحي من جديد.
وشبّهت الصحيفة ، رسوم الدخول المدفوعة من قبل السياح الزائرين لآيا صوفيا “بنقود الدم”. ومن خلال نحيب صحيفة ذا أكونوميست على ضياع أراضي فلسطين وسوريا والعراق ومصر من أيدي البيزنطيين في زمان الإمبراطور هيرقل {575 ـ 641} ونحيبها على فقدان الأمل في استرجاع هذه الأراضي المسيحية بعد قيام السلاجقة بفتح الأناضول ومن بعدها اسطنبول؛ نستطيع رؤية الجذور التاريخية والثقافية التي دعت صحيفة ذا أكونوميست للنفور والضجر من أردوغان بهذا الحجم؛ السبب من ضجر صحيفة ذا اكونوميست من أردوغان لهذا الحد ؛ لأن العقلية الغربية ترى في أردوغان القائد القوي لحملة إعادة إيقاف تركيا على أقدامها من جديد وبشكل أقوى مما كانت عليه في السابق و المدمّر الأكبر لعملية إعادة اسطنبول إلى أصلها البيزنطي والتاريخي{ قسطنطيطو بوليس} إلى الأبد.
في الحقيقة هم ليسوا مخطئين أبدا؛ وذلك لأن أردوغان من خلال قوله في “مهرجان الفتح” ” لن تحقّقوا أحلامكم وآمالكم حتى تنطفئ آخر شعلة من شعلنا ويسقط آخر لواء من ألويتنا”، أعطى الغرب الرسالة اللازمة والموجعة.
الهجمات المموّلة عن طريق الأجهزة الأيدولوجية الغربية، تجلب لعقولنا الحقيقة التي اضطر بيرنارد لويس للاعتراف بها؛حيث يقول ” الغرب يستوعب العالم الإسلامي فقط برموز جغرافية وعسكرية”. وعندما ننظر للأناضول ومابين النهرين والشرق الأوسط وشرق أفريقيا نجد أنها لفترات طويلة كانت خاضعة للدول المسيحية.”
و إذا تعمّقنا بأسلوب التفكير العقلاني والمحوري الغربي نجده مركّز بالنظرة السياسية العميقة التي تدور حول كيفية إيجاد طرق لاسترجاع الجغرافية المسيحية التي سقطت تحت السيادة الإسلامية.
لهذا السبب عمل الغرب ويعمل على شيطنة جميع القادة، مثل أردوغان وعبدالحميد وصلاح الدين والفاتح، الذين فتحوا وحموا ويحمون أراضي العالم الإسلامي.
جوهر العقلية الاستعمارية نستطيع أن نجدها في كتاب “إدارة الشعوب الخاضعة لنظام الوصاية” الذي كتبه المندوب السامي الإنجليزي في مصر والهند، لورد كرومير { 1841 ـ 1917} والذي يقول فيه” في الدنيا يوجد صنفان؛ الغربيون والشرقيون، ويجب على الصنف الأول أن يحكم الصنف الثاني”
كما أن ويبير في جميع مقالاته المكتوبة حول “سوسيولوجيا الدين” يحقّر الثقافات الأخرى بهذا الشكل ” الحضارة الغربية هي الوحيدة التي وجدت لنفسها أسلوبا علميا وتاريخيا وإجتماعيا، وطوّرت لنفسها فنونا مكتوبة ومعمارية وأدوات موسيقية مثل البيانو والأورغ والتشيلو، وأسّست الرأسمالية والديمقراطية البرلمانية والمجتمع المدني والجامعات”. ويوضّح ويبير في هذه المقالات، التي يعتمد فيها على السيكولوجيا الإمبراطورية كسقف أساسي، أن الدول الأوروبية يجب عليها الانتشار في الجهات الأربعة للكرة الأرضية من أجل نشر الحداثة والتطوّر في العالم المتخلّف.
هذا الفكر يمثّل الوصفة الطبية للعقلية الغربية التي يملكها كل مواطن غربي في وقتنا الحالي.
ويمكن لنا أن نرى أن استراتيجيات وزارة الدفاع الأمريكية وكتابات فوكوياما وهنتجتون تنطلق من نفس المنطلق وتحمل نفس الفكر.
على الرغم من أن الغرب انكسر وانهزم ألا أنه وحتى الآن لم يتخلّ عن كبره الإمبريالي التوسّعي. وكما أن الغرب لم يؤمن في يوم من الأيام بمبدأ التعدّدية السياسية وحقوق الإنسان والديمقراطية. فإن الفكر الليبرالي الذي يحاول الغرب تطبيقه في العالم كفكر كوني، لم يُظهر غير الفكر العرقي الذي يُملي على الآخرين فكرة ” أنت ستشبهني وستصبح مثلي شئت أم أبيت”. الرأسمالية الليبرالية في مجملها تمثّل الطبيعة العولمية التي لن تعط إذن لأي فكر بديل.
وكانتقاد يقوم إيدمنود هوسيرل {1859 ـ 1938} في كتابه” أزمة أوروبا العلمية 1936″ بالسؤال بحيرة عن سبب عدم قيام الانسان الغربي صاحب الفكر والاستيعاب والقوانين الساقطة، بانتقاد تاريخه ونفسه. ويقوم إيدمنود في نفس الكتاب بالتأكيد على أن الإنسان الغربي سقط في فخ الأنانية التاريخية والثقافية وأصبح يُنكر جميع الحقائق التاريخية والثقافية والعلمية التي تخالف وجهة نظره.”
بالطبع لولا هذه الأفكار لما سقط الإنسان الغربي المتنوّر في مستنقع اللاعقلانية ولما أصبح عبدا للأفكار الفاشية.
يخبرنا فوكولت في كتابه “الانضباط والعقاب” عن كيف أن الغرب يرى الآخر مجهولا أو لا شيء ولكن بعد ذلك يعيد إنتاج هذا المجهول من جديد ويصمّمه حسب مصالحه ويجعل منه شيئا ملحوظا. يسمي فوكولت هذه الظاهرة بإسم “تشيئة الآخر.”
لهذا السبب فإن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الغابرة لم تكتف فقط بحكم تركيا عسكريا وسياسياً واقتصادياً، بل هدفهم الرئيسي كان تشكيل تركيا ثقافياً من جديد حسب مشاريعهم ومصالحم الخاصة.
ويقول أوكتافيو باز؛ “لا يمكن أن تعطي الإمبرالية في أي وقت من الأوقات تطبيعا تاريخيا للثقافات الأخرى.”
يجب علينا أن نعلم جيّدا بأن الوعي الجيوسياسي المستنبط طريقه ومحدّدها حسب البنتاغون والسي آي لا يسيطر على الدول المستهدفة فقط عسكريا بل يسيطر عليها عن طريق ضخ وإنتاج البلاغة اللغوية والمصطلحات والأفكار التاريخية والاجتماعية ولاقتصادية والأكاديمية الموازية لمصالحه وأفكاره.
لو أن بعض مفكرينا لم يصبحوا أسرى لمنطق الاستعمار المغلّف بأفكار واستراتيجيات البنتاغون هذه، لما إستهزأوا واستهانوا بفكرة قتل الأخ؛ التي كانت تعتمد عليها الدول العثمانية عن طريق قتل الإخوان الورثة وترك واحد منهم فقط ليصبح السلطان، من أجل المحافظة على بقاء الدولة واستمراريتها وقوتها.
إن الثلّة التي تمثّل العقلية المستغربة في مجتمعنا لديها استياء وعداء شديد تجاه الثقافة الدينية المحافظة وتجاه الدولة العثمانية التي عملت على أسلمة وتتريك الأناضول والبلقان. هذه الثلّة كتبت ودوّنت الكثير من المجلّدات التي توجّه تهم القتل والتجبّر والظلم للدولة العثمانية وسلاطينها. حاولت هذه الثلّة، ذات الجذور والأفكار الغربية، بأخذ ثأرها من هذا الفتح عن طريق رسم السلاطين العثمانيين والمتصوفين الدراويش على أنهم جهلة وظلمة وأناس لا تفقه معنى الحياة العقلانية.
وفي هذا المقام يجب علينا أن نذكر كلام المؤرّخ الفلسفي مارتش بلوتش {1886 ـ 1944 } الذي يحذّرنا من مثل هذه الإفتراءات ويقول ” لا تكتفوا بإدراك الخدعة بل ابحثوا عن أسبابها ومحاورها بشكل كامل”.
لتطبيق فكرة بلوتش وفهم العالم والحوادث التي تدور حولنا بشكل كامل يجب علينا إفساد مايتم فرضه علينا من معلومات مغشوشة وخاطئة ومحوّرة حسب أفكار فريق ما. وفي بعض الأحيان للوصول إلى الحقيقة الكونية والخروج على عكس البوتقة التي رسمها لنا بعض الأشخاص وقالوا أنها تحتوي “حقائق وآراء لا يمكن أن تهتز أو تتغيّر”. يجب علينا أن نقاوم بكل مانملك ونعطي كل جهدنا لقلب هذه الاسطوانة الخادعة إلى وجهها الحقيقي. هذه المقاومة لا يمكن أن ننجزها إلا إذا قلنا بكل شجاعة ” كلنا أردوغان” ” كلنا مرسي” “كلنا هنود حمر”. إذا لم نحقّق هذه الخطوة والمقاومة سنبقى للأبد خاضعين لنظام الوصاية الذي فرضه علينا الغرب، كقدر مكتوب علينا.
بدون أي شك هناك نظام تم إنشائه وتبنّيه من قبل الغرب والكثير من مناصريه في الشرق وزعموا أنه نظام كوني لا يمكن تغييره لأن تغييره يعني رجوع العالم إلى المنازعات والحروب. ولكن هذا لا يمت للحقيقة بأي صلة، وذلك لأن هذا النظام مبني على نظام الغاب بمعنى القوي يأكل الضعيف، لذا يجدر بل يجب علينا أن لا نبقى تحت سقف هذا النظام الذي يَعُدّنا ضعفاء ويستغلّنا، وقضية أن هذا النظام نظام اجتماعي لا يمكن تغييره ولا يمكن لمسه ، هو خيال أو نظرية ركيكة فرضها علينا الغرب ويجب علينا التخلّص منها.
وبحمد من الله ومنة استطعنا في تركيا التخلّص من جزء من هذه النظرية بعد قيام مجتمعنا الواعي بتاريخ 30 إبريل و10 أغسطس، على الرغم من جميع الهجمات الداخلية والخارجية، ببيان إرادته الحرّة والقضاء على جميع أغلال العبودية التي كانت ستوصد حول رقبته. والآن في تاريخ 7 يونيو سيعلن للدنيا أجمع أنه من جديد حمي والتفّ حول أردوغان الحُر ليقضي بذلك على جميع المؤامرات التي تحاك ضد تركيا الحرة وتطوّرها واستقلال رأيها، وسيعطي الجواب الواضح للذين يخوّفون أردوغان بعاقبة مرسي و مندريس وأوزال، بأن هناك شعبا حاميا للأحرار من غدر الضباع الكونية.
لماذا ذلك؟ لأن هذه آخر حرب!
يمكن أن يكون للصلاة والصوم قضاء ولكن لا يمكن أبداً أن يكون للتاريخ قضاء !
————————————-
نشر هذا المقال علي موقع تركيا بوسط :6 يونيو 2015