لعل المتابع للواقع الثقافي العربي في ظل ما نعيشه اليوم تظهر له جملة من النتائج المهمة، في مقدمتها الآلية التي يتشكل بموجبها هذا الخطاب، والكيفية التي يواكب فيها المتغيرات التي تحيط بالواقع العربي؛ من انتفاضات وثورات وتحولات، أفضت إلى نوع من العلاقة الملتبسة بين ما كان وما يجب أن يكون، وهي إشكالية يمتد عمرها بامتداد الكيفية التي تم بها «مأسسة» الثقافة، إن كانت قد تحولت إلى مؤسسات فعلاً.
فالانتقال الحتمي من دائرة المجرد الثقافي إلى دائرة الأداء المؤسسي هي نقطة الفصل التي من خلالها تتم قراءة المنجز برمته، ذلك إن من المعضلات المعلومة هي تحول الخطاب الثقافي العربي إلى فعالية شخصية أو فعاليات للهواة في بعض الأحيان، وتأخرها عن أن تكون في صدارة التحولات العربية، وأكثر من كونها أسلوبية متكاملة تستند إلى ثوابت ومعطيات راسخة.
فإذا تحدثنا عن المنجز الثقافي باعتباره خلاصة الفاعلية الثقافية في كل زمان ومكان؛ فإن النظرة إليه هي نظرة إلى المبدع المحترف الذي وجد في هذا الإبداع ضالته، لكن تلك الفكرة ليست بالضرورة هي نفسها التي يتحدث بها الآخر؛ مستهلك الخطاب، أو مجتمع الخطاب، أو المجتمع الذي يتعامل مع قطاع الثقافة.. إذ ظل هذا القطاع مرتبطاً بالنخبة وبحركيتها ومنجزها، فهو خطاب تمتلكه هذه النخبة دون غيرها، دون أن تستطيع بالضرورة توسيع نطاقه إلى مستويات أبعد وأعمّ وأشمل.
إن هذه الإشكالية المزدوجة هي التي أسست لدور المؤسسة الثقافية الملتبس، فهي في وضع تحتاج فيه إلى تقديم نفسها على أنها ليست مناخ المبدع ودائرة تأثيره فحسب، بل هي أبعد من ذلك، هي القادرة على أن توسع من دائرة التأثير الإنساني، لتجعل من الخطاب المنجز أكثر فعلاً وتأثيراً على جميع المستويات والأصعدة، وهي المسألة التي تتوسع فيها دائرة المسؤولية بين من ينتج ومن يستهلك، وتلك مسألة بدت واضحة في ظل الثورات والتحولات التي يشهدها العالم العربي.
الخطاب لا يتشكل دون مناخه
والقصة هنا تتعلق بالنظرة إلى سلسلة من المعطيات، على أساس أن الخطاب لا ينشأ ولا يتشكل دون مناخه وتحولاته المتدرجة، التي تسهم فيها عوامل اجتماعية وفكرية وسياسية وغيرها.. لكن المسألة بهذا الشكل ظلت أسيرة قراءات متعددة تتناسب مع مصدر تلك القرءات، فمن قال: إن الخطاب ما هو إلا امتداد للواجهة السياسية ومخرجاتها، بمعنى «ابتسار» المسألة في إطار من المحدودية والتجريد، لا يخرج من إطار كون الخطاب الثقافي ما هو إلا نتاج سياسي بواجهة ثقافية، وهؤلاء الذين يتحدثون ضمن هذا الإطار يندفعون في رؤيتهم من منطلق أن ما هو حياتي فهو سياسي بالضرورة، وهي نظرة تكرس ما هو سياسي إلى مدى أوسع مما هو فيه أو عليه حقاً، مرتبطة بقطيعة معرفية خالصة، وهو أمر لا يستقيم مع منطق الأشياء في كل الأحوال؛ لأن القول بالقطيعة المعرفية سيؤدي بالحتم إلى قراءة موازية لتلك القطيعة قوامها الانفتاح المعرفي على جميع المستويات والصعد، فهو ليس مجرداً فكرياً أو تجريداً وسفسطائياً بقدر ما هو كلٌ متكامل يتداخل فيه المعرفي بفصوله وتنوعاته، وتتداخل فيه الفلسفة بالموروث بالعمل الإبداعي ضمن ذلك التلاقح المفضي إلى إنتاج الخطاب لا إلى ابتساره في شكل أو محتوى.
إشكالية التحول الثقافي
إن الإشكالية الأبرز هنا هي إشكالية التحول الثقافي من منظومات قيم تقليدية إلى منظومات حداثية، وهي إشكالية جديدة قديمة، من منطلق أن المجتمعات العربية واجهت إشكالية التحول هذه يوم اهتمت بإدخال التكنولوجيا الحديثة، وبدأت تتلمس خطاها في وسط ذلك التدفق غير المحدود للمستحدثات، وبرز يومها سؤال الهوية الثقافية.
وما لبث المجتمع العربي أن تقبّل ما هو مُقْبِل عليه من تدفق للسلع والأنماط الثقافية عبر التلفزيون والسينما بشكل خاص من وسائل الإعلام التي روّجت للواقع الجديد، وعززت نمطاً ثقافياً عابراً للقارات، متجاوزاً للخصوصيات المحلية والإقليمية والدينية والعرقية.. وغيرها.
لكن اليوم، وبعد قرابة ثلاثة عقود، نجد أنفسنا إزاء الجدل المتجدد عن الهوية الثقافية والتدفق الثقافي – المعلوماتي، الذي تحول فيه المجتمع البشري بأسره إلى مستهلك لنمط ثقافي مشترك كما يقول «روجيه دوبريه».
هذا الواقع المركّب خلّف وراءه أصداءً متنوعة تتعلق بجدل الذات والآخر والهوية والمستقبل.. إذ إن المضي في استهلاك الخطاب الثقافي – الإعلامي دون أن يكون الفرد والمجتمع صانعاً له؛ هو إحدى أخطر وأهم المعضلات التي تجابه ما سميناه بالتحول الثقافي.
هذا التحول يتمثل في مسألتين أساسيتين يواجههما الخطاب الثقافي والمؤسسة الثقافية ومجتمع المثقفين:
الأولى: انهيار كثير من المفاهيم التي ارتبطت بالقرن الماضي وما قبله، وبما في ذلك انهيار أيديولوجيات كان يُعوَّل عليها كثيراً في مسألة التحولات الثقافية على الصعيد العالمي، وليس خافياً ما شهدناه من انهيار منظومة الدول الاشتراكية ونظامها الشيوعي الذي ساد لما يقرب من قرن من الزمن، هذا بالإضافة إلى زعزعة كثير من المفاهيم والقيم ووقوعها تحت تأثيرات قوى العولمة ووسائلها الضاغطة ومؤسساتها وشركاتها العابرة للقارات، التي تضع في حسابها وفي أول سلم أسبقياتها إحلال مفاهيم العولمة في إطار أي تحول ثقافي منشود، وبموازاة ذلك انهيار النظام القُطْري العربي أو زعزعة الثقة به.
الثانية: هي التحولات الهائلة التي تشهدها المجتمعات المعاصرة وهي تواجه السرعة الهائلة التي تدخل فيها مستحدثات التكنولوجيا إلى الحياة اليومية، وكما حصل في برامج التواصل الاجتماعي التي أذكت الثورات العربية، حتى صار التراكم المعرفي والمعلوماتي علامة فارقة من علامات هذا العصر، يتعامل معها هذا الجيل بوعي وحرفية، وفي المقابل عجزت الوسائل التقليدية في إنتاج الخطاب الثقافي وآليات عمل المؤسسة الثقافية التقليدية من اللحاق بهذا التسارع المهول؛ ولهذا رضيت تماماً وسلّمت بالمعادلة غير المتوازنة القائمة على ثنائية المركز والأطراف.. فكانت هي جزءاً من تلك الأطراف التي تتراوح بين مستهلكة للخطاب الثقافي وغير فاعلة ولا منفعلة، وبين قطاع خامل مازال يجتر مشكلات الفقر والأمية.
إن هاتين العقبتين (الفقر والأمية) هما الأبرز في مسار التحول الثقافي على صعيد الحياة العربية، فقد تبع هاتين المعضلتين معضلات ثانوية تتعلق بالمشكلات الاجتماعية المزمنة المترتبة على الفقر والأمية، فهما المهد الحقيقي للتدهور الثقافي والقيمي.
ولعل هذا الجانب المهم يقودنا إلى محور موازٍ ومكمل لآليات التحول الثقافي؛ وهو محور المشاركة الثقافية، فمعطيات عصر التقنية والمعلومات تقدم لنا خلاصات مهمة؛ مفادها أن انتشار المعرفة والمعلومات وسرعة استخراجها وتداولها والإفادة منها قد قاد إلى تأسيس أرضية واسعة للمشاركة، أتاحت للناس من كل الطبقات والأعمار والشرائح الاجتماعية أن تكون جزءاً من آلية التحول في كونها جزءاً من دائرة المشاركة من منطلق أن المؤسسة الثقافية المعاصرة قد أسقطت نهائياً الحدود التي تحول دون المشاركة الفاعلة، وبالتالي فإنها استقطبت شرائح اجتماعية متنوعة.
ذائقة المجموع
وإذا انتقلنا مما هو عام وشمولي إلى ما هو محلي؛ وجدنا أن إطار المشاركة يتسع باتساع وانفتاح المؤسسة الثقافية على المجتمع، وقدرتها على جعل الخطاب الثقافي أقرب إلى ذائقة المجموع واهتماماتهم.
إن مسألة المشاركة والتحول لم تعد في عالمنا اليوم مجرد هامش من هوامش أداء المؤسسة الثقافية، بل صار واحداً من أهم إستراتيجياتها، فهي مطالبة بمطلبين أساسيين، هما:
المطلب الأول: أن تكون واعية لما يعنيه التحول الثقافي، من منطلق أن مجتمع المعرفة والمعلومات في تسارع صعوده وتحولاته يتطلب مواكبة واعية وحثيثة، وتجديداً متواصلاً للمفاهيم والأنساق ومنظومات القيم، وبالتالي، فإنه يتطلب توافر خطط مرحلية ورؤية إستراتيجية في آن معاً لتحقيق تلك الاشتراطات، كما يتطلب قدراً وافراً من المرونة والوعي المتقدم لقراءة ما هو آت.
المطلب الثاني: إعادة صياغة وإنتاج الخطاب الثقافي، وتفعيل جانب المشاركة في إنتاجه واستهلاكه، وتحويله من دائرته المحددة بمجتمع المثقفين إلى دائرة أوسع تنشّط الشرائح الاجتماعية المختلفة، وتجعل شريحة المثقفين جزءاً فاعلاً وفي صدارة التحول وصنع القرار، وتجعلها جزءاً من منظومة متكاملة يمكن للمؤسسة الثقافية الاستناد إليها وأخذها في نظر الاعتبار عند أي تخطيط مستقبلي.