عن طريق النبوات المتعاقبة على مدار مساحة واسعة من التاريخ، تمّ توصيل الخطاب الإلهي إلى الإنسان لكي يقوده إلى الصراط، مصداقاً لقوله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ “51”} (القصص)، وكانت حلقته الأخيرة على يد الرسول المعلم “صلى الله عليه وسلم”، واكتمال القرآن الذي تنزّل عليه: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3).
وتوصيل القول لا يقتصر على الخطاب الإلهي، إن هذا الخطاب هو عمل تأسيسي لابد أن يقوم عليه البناء بجهد المنتمين إليه، من أجل إيصاله إلى كل بقاع الأرض، وإلاّ فهو التقصير الذي سيحاسب عليه كل من تهاون في شأنه، وبذل أقصى ما في وسعه لمدّه إلى سمع العالم كله، وعقله وقلبه ووجدانه.
إن القرآن الكريم يقولها بصراحة: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)} (القصص)، { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً” “15”} (الإسراء)، { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)} (فاطر).
وبالإحالة إلى الآية الأولى يتبيّن أن توصيل الخطاب الإلهي في كل بلد أو قطر يتمركز عند أم القرى، أي عند عاصمة ذلك البلد أو القطر، أو عند مدينته المركزية، وتبقى مسألة إيصاله إلى الأطراف من مهمة المنتمين إلى الدين، إنه يتولى المركز ويترك مسؤولية الانتشار على الأتباع.
ولما كان الدين الإسلامي هو خاتمة الأديان، والأمة التي انتمت إليه هي الأمة المسؤولة عن مصائر الموقف الديني في العالم؛ بسبب كونها الأمة الوسط الشاهدة على البشرية في مسيرها ومصيرها؛ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143)، فلنا أن نتصوّر كم أن الحجة قائمة علينا جميعاً لتغطية جغرافية العالم بمطالب الخطاب؟
وتزداد هذه الحجة إلزاماً في العصر الحديث، عصر العولمة الذي جعل العالم كلّه في التحامه وتقاربه أشبه بنادٍ أو قرية واحدة، وعصر المعلومات والإعلامية وأجهزتهما التقنية المدهشة (الكمبيوتر والإنترنت والهاتف النقال والفيسبوك والفضائيات.. إلخ)، ذلك أنها وضعت بين أيدينا إمكانات توصيل الخطاب إلى ملايين الناس عبر دقائق ولحظات، فإن لم نحسن توظيفها خسرنا الدنيا والآخرة.
وإنها لمسؤولية كبيرة، وتحدٍّ خطير، ولابّد من أجل الاستجابة له من بذل جهود هائلة على مستوى الأفراد، والمؤسسات، والحكومات، والدول، جهود تعتمد ميزانيات ضخمة، وتخطيطاً محكماً، وخططاً خمسية وعشرية لتغطية الأزمان القادمة بما يحقق المطلوب الغالي العزيز، والمطلوب هو مواصلة إيصال الخطاب إلى سمع العالم كلّه من أقصاه إلى أقصاه، ليس بلغتنا العربية وحدها وإنما بلغات الدنيا كلّها، اللغات الأم واللغات الفرعية على السواء.
ثمة خطوط أخرى للتوصيل يحدثنا عنها كتاب الله، حيث لم يترك – وحاشاه – أي فرصة للقول: إن هناك جماعات وشعوباً لم يصلها الخطاب، فكيف ستحاسب يوم القيامة؟ وكيف تتلقى العذاب وهي لم تعرف شيئاً عن طبيعة الخطاب الديني ابتداء؟
ويجيء جواب القرآن الكريم: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ “173”} (الأعراف).
إذن فإن شهادة الإيمان بالله الواحد مركوزة في جبلة الإنسان حتى لو لم يصله الخطاب الديني، وعليه في حالة غيابها في طبقة بعيدة في نفسه أن ينقّب عنها، ويكشف عن حقيقتها ويحفزها على العمل، فهي كفيلة لأن تقوده إلى شهادة «لا إله إلا الله»، وتجعله يجتاز الحساب العسير بسلام.
فجهد التوصيل لا يتحقق بالعمل من طرف واحد وإنما من طرفيه؛ المرسل والمتلقي، وعلى الأخير أن يبذل أقصى ما في وسعه من جهد، من أجل الوصول إلى الحق، لكي ينقذ نفسه.. هذه واحدة، وهي مسألة ذات بعد داخلي.
أما الأخرى فذات بعد خارجي، تلك المنظومة المدهشة من الآيات القرآنية التي تتحدث عن إبداعية الله سبحانه وتعالى في الخلق على مستوى الكون والطبيعة والعالم والإنسان، والتي جاءت الكشوف العلمية الحديثة لكي تؤكد مصداقيتها.. وتلك الدعوة القرآنية المؤكدة إلى «النظر» في خلق السماوات والأرض والإنسان للتوصل يقيناً إلى الإيمان بالله الواحد القدير على هذا الإبداع المتوازن المنضبط الذي لا يسمح للصدفة مطلقاً وبأي نسبة، بأن تمارس دورها فيه.
إن على الإنسان والجماعات والشعوب، حتى تلك التي لم يصلها الخطاب الديني، أن تبذل جهدها في إعمال عقلها في معجزة الخلق لكي ما تلبث أن تنتهي، ليس فقط إلى الإيمان بالخالق جل وعلا، وإنما بتوحيده المطلق، وهذا ما نجد نموذجاً له في كتاب «الله يتجلى في عصر العلم» الذي يتحدث عن بضع وثلاثين عالماً في مختلف العلوم الصرفة أولئك الذين قادهم المختبر إلى الإيمان بالله الواحد سبحانه وتعالى.
الطرق إلى الله سبحانه وتعالى كثيرة، ويبقى على الإنسان أن يسعى للوصول، وهو يتعامل مع الخطاب الديني حيناً، ومع فطرته النقية حيناً آخر، ومع الكون والعالم والحياة حيناً ثالثاً، ويقيناً فإنه سيصل.