أرادت السيدة سهير الجوهري أن تلقي نظرة أخيرة على جثمان زوجها العميد شرطة متقاعد طارق الجوهري، قبل أن يفارقها إلى الأبد، فطلبت من القائمين على غسله أن يسمحوا لها بذلك، أعدت في ذهنها كلمات كثيرة، تريد أن تخبره بها بعد أن غادرها وترك الحياة فجأة، دون أن تعد العدة لذلك الموقف. كانت تنوي أن تخبره بأشياء، وتعاهده بأمور، وتريد كذلك أن تودعه، وتؤكد له أنها على العهد ماضية ثابتة، كما كانت معه دائماً.
نظر إليها القائم على «الغسل»، قائلاً: أبشري.. أبشري.. أبشري! لم تدرك للحظة معنى هذه الكلمات، وعندما تقدمت خطوات نحو الجسد الممدد أمامها، لم تستطع أن تنطق بكلمة واحدة، نسيت كل الكلمات التي رتبتها وأعدتها، لقد كان الجسد مبتسماً، فلم تودعه إلا بابتسامة، كانت ابتسامته أكبر، مضيئة كأنها راضية عما وصلت إليه، كأنها ودعت الدنيا بهمومها وأحزانها، لم تتمالك السيدة المكلومة نفسها إلا أن تبادله ابتسامة بمثلها، مغلفة بنظرات الحب وأصوات الصمت.
هكذا بدأت السيدة سهير الجوهري حديثها معنا، حاولت أن آخذها بعيداً عن هذه اللحظات الحزينة، فسألتها:
مولده ونشأته
* أين ولد العميد طارق الجوهري؟
– طارق الجوهري من مواليد محافظة القاهرة الكبرى في حي شبرا المظلات، توفي والده وهو في الحادية عشرة من عمره, فواصلت والدته الكفاح والتربية، وعندما حصل على الثانوية العامة، تلقى رسالة من مكتب التنسيق أنه تم قبوله في كلية طب الأسنان, إلا أن حلماً كان يراود أباه بأن يلتحق ابنه بكلية الشرطة.
وفضّل طارق حلم أبيه، والتحق بكلية الشرطة، تاركاً وراءه استمارة ترشيحه لكلية طب الأسنان.
* ماذا عن طارق الجوهري الأب ورب العائلة؟
– العميد طارق أب لثلاثة أبناء من الذكور وبنت، البنت تخرجت في كلية الإعلام وتزوجت, وأكبر الأبناء الذكور عمرو تخرج في الجامعة الكندية، والابن الثالث عمره 12 عاماً، والرابع 11 عاماً.
كان – يرحمه الله – كريماً وسخياً إلى أبعد الحدود، وكثيراً ما اختلفنا حول كرمه الزائد، وعطائه للأولاد، وكنت أرى ألا نعطيهم كل ما يطلبون، وكان هو يرى العكس، حتى إنه كان يعطيهم ويقول لهم: «لا تخبروا ماما».
حياته
* طارق الجوهري الأب وعميد الشرطة، ما الفارق بينهما؟
– طارق الأب لا يختلف كثيراً عن طارق العميد، فحنانه على أولاده هو نفس حنانه على جنوده، كان دائم الاطمئنان عليهم وتفقد أحوالهم, وفي رمضان كان يؤخر إفطار البيت كله حتى يطمئن أن جنوده تناولوا فطورهم، وكان يطلب لهم أنواعاً من العصائر، يعلم أنهم يفضلونها.
كان يعلم من يفضل منهم أن يشرب «قمر الدين» على الإفطار، ومن يفضل غيره ويسارع في إحضاره، ولم يكن حنانه مقصوراً على أولاده.
ويروي ابنه عمرو هذه القصة: ذات يوم كان من المقرر أن يعمل مع أبي جندي واحد خرج معه في مهمة, إلا أن ثلاثة جنود توجهوا إلى عمرو ليتوسط لهم عند أبيه، كل منهم يرغب في أن يتم اختياره للعمل مع العميد, لقد كان أبي عطوفاً كريماً، وزادتني هذه الواقعة ثقة في ذلك.
* ماذا عن طارق الجوهري الزوج؟
– كان – يرحمه الله – يحب رفقتي واصطحابي معه في كل مكان، حتى إنني كنت أذهب معه أحياناً إلى «الميكانيكي» لإصلاح السيارة، ولهذا كان أصدقاؤنا يطلقون عليه «أردوغان قطر» بسبب تواجدي معه كثيراً.
ولم أكن أدري أنني أحفر في ذهني وذاكرتي أياماً جميلة، ستتحول فجأة إلى ذكريات، وبدون مقدمات.
لم ينشغل عني رغم كثرة مشاغله، ولم يتأخر عني رغم ضيق وقته, وكان يحرص على قضاء أوقات جميلة معي، ومع الأولاد.
كان – يرحمه الله – كريماً وسمحاً في معاملاته، ينفق على عمله كثيراً ولا يخشى فقراً.
الخروج من مصر
* هل مرت بك لحظات ندم، خاصة بعد وفاته وأنت خارج مصر، بعيدة عن أرضك وأهلك؟
– زوجي لم يندم لحظة على قراره بالخروج من مصر لدعمه الشرعية، بل بالعكس كان مصراً على موقفه، ويزداد يقينه دوماً بأن النصر قادم، بل وقريب، وأنا مثله لم أندم، والآن أكثر من أي وقت مضى أشعر بأني ثابتة، وأننا على الطريق الصحيح، وظهر هذا جلياً في أول تصرف قمت به بعد وفاته، وهو أن يُدفن في قطر.
الوفاة
* كيف كان اليوم الأخير في حياة العميد طارق الجوهري؟
– كان يوماً عادياً، خرجنا في بدايته مع بعض الأصدقاء لقضاء بعض الوقت على الشاطئ، وكنا في سيارتين، وفي أثناء قيادته للسيارة، وبدون مقدمات، قال لنا: «مصر وحشتني»، فقلت له: بعدما خرجت منها مطارداً! فقال: مصر هي الأرض والوطن والأصدقاء ورائحة الهواء، مصر هي الطفولة والشباب، ثم سكت، ورأيت دمعة تسيل على خده من خلف نظارته الشمسية، فصمتنا احتراماً لمشاعره.
قضينا يوماً جميلاً على الشاطئ، وأثناء العودة فجأة تراجع جسد زوجي للخلف، تاركاً عجلة القيادة، مما أدى إلى انحراف السيارة عن مسارها, بعد فقدان السيطرة عليها، كان ابني يجلس بجانبه فقام سريعاً بالسيطرة على عجلة القيادة، وفي الوقت نفسه شعرت كل السيارات على الجانبين بأن أمراً خطيراً قد حدث، وطلب أحدهم الإسعاف، ولا نعلم إلى الآن من طلبها, ولكننا لم نكن بحاجة إليها فقد فارقت روحه الحياة، وهو أمام عجلة القيادة يرحمه الله.
* لماذا لم تنقلوا جثمانه إلى مصر؟
– كانت وصية زوجي دائماً لي: «إذا مت فلا أريد البهدلة»؛ لذلك وبعد مشاورة مع أبنائي وحوارات ونقاشات مع الأهل في مصر، اتخذنا القرار المناسب بدفنه في قطر.
* هل انتهت مهمة العميد الجوهري؟
– من قال هذا؟ إن مهمته وواجبه مازالا قيد العمل، وأنا من بعده أسير على العهد، وكذلك أبنائي وبناتي.
* كلمة توجهينها لمؤيدي «الشرعية»، ماذا تقولين لهم؟
– أقول لهم: إن زوجي ترك أرضه ووطنه ودُفن غريباً، لثقته ويقينه بأن النصر قريب، وأنا من خلفه أعيش بعيداً عن دياري وأهلي، لثقتي أن النصر قادم، أبشركم أن النصر قادم وقريب، كلمات رددها زوجي كثيراً قبل وفاته بأيام، وقد وجدته دائماً صادقاً وفياً لعهده.