يروى أن أحد الولاة في العهد العثماني قد فرض ضريبة على أهل البادية في العراق، وهي صوف الخروف أو ما يدعى بـ«الجزة» على كل عدد معين من الخراف، ولما رفض البعض من العراقيين هذه الضريبة الظالمة، ولم يؤدوها، ما كان من الوالي إلا أن عاقبهم على رفضهم لظلمه، وشدد الضريبة عليهم وقال: من لم يدفع الجزة (صوف الخروف) سوف يدفع الجزة ومعها الخروف! ومن هنا كان المثل الشعبي العراقي القديم: «من لم يرضَ بجزة يرضَ بجزة وخروف»، واليوم استطاعت إيران وحلفاؤها في العراق أن يجددوا هذا المثل الشعبي وبما يلائم التغيرات والتطورات في المنطقة، وبما يتلائم والمشروع الإيراني في احتلال العراق، فجعلوه: «من لم يرضَ بالمالكي، رضي بالمالكي والعبادي»! والحليم تكفيه مقولة الجارة (أي إيران)، بالتلميح والإشارة.
قد تختصر هذه المقدمة واقع ما يعيشه العراق اليوم، فبقراءة حكيمة بعيداً عن التفاؤل المذموم الذي ساد الساحة العراقية والعربية بل وحتى الدولية بقدوم العبادي كرجل مرحلة لإعادة موازين العدل والمساواة بعد طائفية مقيتة للمالكي وزبانيته، يتبين لنا أن المخطط الإيراني هو المتفرد الوحيد بالساحة العراقية بلا أدنى منافسة، وهو الذي عاقب من أعترض على طائفية المالكي وإجرامه، وبما يتماشى مع المثل الشعبي العراقي السابق، وعلى صيغة: من لم يرضَ بظلم المالكي الطائفي بالأمس، فليرضَ اليوم بظلم المالكي العلني وظلم العبادي الخفي، سوياً!
مستجدات الساحة العراقية
مع انفضاح شأن الحكومة العراقية اليوم (حكومة العبادي الكارتونية)، ومن أنها ليست أكثر من جسر لعبور المشروع الإيراني الطائفي نحو استئصال السُّنة والاستيلاء على أراضيهم وجعل العراق منطلقاً للمشروع الصفوي نحو دول الجوار، فإنها تظهر اليوم بلا صلاحيات تُذكر وليس لها أي سيطرة على أي ملف من ملفات الدولة، فالحشد الشعبي يمسك بالملف الأمني من ألفه إلى يائه، ويتجاوز ويهين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وجميع القوات العسكرية، بينما لا يتجاوز دور العبادي كونه المسؤول عن التصريحات الكاذبة والمخدرة لأهل السُّنة، وأنه حريص على الإيفاء بكل عهوده لهم وتلبية حقوقهم، وفي المقابل يقف وزير الدفاع السُّني خشبة مسندة، جل عمله في أن يلف على قدور طبخ الجنود ليتأكد من طعمها، ويستقبل الفنانين ليطلب دعمهم، ويتنقل في مناطق بغداد ليُهان من ضباطها، ويزور السيستاني في النجف ليطلب تأييده فيرفض الأخير حتى استقباله، ويمنعه هادي العامري، وأبو مهدي المهندس من الوصول إلى جبهات القتال وإلا قُطعوا، كل هذا بينما يشهد الملف الأمني اليوم انهياراً قوياً وعودة متسارعة لجرائم القتل والاغتيال والسرقة وعودة مسلسل الجثث المغدورة الملقاة على قارعة الطريق وانتشار المليشيات والعصابات في الشوارع، في ظل غياب الدولة سواء كان بحكومتها أو بممثلي أهل السُّنة في البرلمان.
ولا يختلف الأمر كثيراً في ملف السياسة المالية العراقية، فما زالت (وستبقى حتى حين) بيد أزلام المالكي ودولته العميقة يعيثون فيه فساداً، ويحرصون على دعم الاقتصاد الإيراني المنهار بالمال والاحتياطي النقدي العراقي، بينما يعيش العراقيون أسوأ أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية؛ حيث هبوط القوة الشرائية وانعدام السيولة المالية مع غياب الرؤية المستقبلية لحلول تشعرهم بأمن الحاضر وأمان المستقبل، أما الواقع الاجتماعي، فقد بات الشرخ قاب قوسين أو أدنى من بلوغ نهايته بين مكونات الشعب الواحد، فكل أزمة يمر بها العراق اليوم (ولعل آخرها أزمة النازحين من محافظة الأنبار) تؤكد بملء فيها عدم إمكانية تعايش العراقيين بعد اليوم.
معارك الحشد الطائفي
يرى الكثيرون أن سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «داعش» ثم سائر المحافظات السُّنية، وهروب وحدات الجيش خلال ساعات، هو التمهيد لظهور الحرس الثوري العراقي (الباسيج العراقي)، حيث نهاية جيش عراقي قد – وأعود وأقول: قد – يفكر في يوم من الأيام بوطنية أو عروبة، وإعلان مليشيات إجرامية تملك زمام الملف الأمني العراقي وتتحرك بالسوط الإيراني.
وهذا ما حصل علناً وبلا خجل، بل وبتفاخر من قبل زعماء المليشيات الإجرامية من أنهم يتبعون الولي الفقيه في إيران، وفي حال حصول أي مواجهة أو حرب بين العراق وإيران فإنهم سيكونون في صف إيران بلا تردد.
واليوم نرى عناصر ومليشيات الحشد الشعبي وقد قسمت أدوارها في كل محافظة من المحافظات السُّنية، ووضعوا لكل محافظة خطة محكمة لإفراغها من أهلها ولتدمير بنيتها التحتية، ثم لإعادة رسم ديموجرافيتها (تركيبتها السكانية) من جديد، ومع أن المعارك لم تُحسم في جميع المحافظات إلا في ديالى (المجاورة لإيران)، إلا أن المخطط كبير، وتكاد إيران أن تكون اللاعبة الوحيدة فيه مقابل سكان تلك المحافظات العزل والمغلوبين على أمرهم، بينما يقف الكثير من سياسيي أهل السُّنة موقفاً مخزياً أمام هذه التحديات وكأنهم جزء من هذا المشروع اللعين.
الدعم الأمريكي للسُّنة والأكراد
مع إقرارنا بأن ما يحرك السياسة الأمريكية هي مصالحها أولاً وأخيراً، ويقف على رأس تلك المصالح اليوم الملف النووي الإيراني واستعداد الولايات المتحدة لتقديم التنازلات تلو التنازلات في مقابل حسم هذا الملف، وقد يكون العراق (أرضاً وشعباً) على رأس قائمة تلك التنازلات، ومع علمنا بأن قرار التسليح للسُّنة العرب والأكراد مباشرة الذي يحتاج إلى أشهر طويلة ليدخل حيز التنفيذ هو قرار جمهوري قد يكون ترويجاً لسياسة الجمهوريين الجديدة في مقابل سياسة الديمقراطيين التي قادها «أوباما» والتي سعت إلى النأي بالنفس عن أي تدخل مباشر في أحداث المنطقة عامة والعراق خاصة، فقد اكتفت سياسة «أوباما» بالنظر إلى القوى المتصارعة والاكتفاء بالتصريحات الإعلامية والتهديدات الجوفاء، وهم يسعون إلى موازنة كاذبة بين تلك القوى المتصارعة، بينما تغول المشروع الإيراني وصار خارج السيطرة الأمريكية بل وربما حتى الدولية، والخلاصة أن الولايات المتحدة لم تعد في مشهدها الذي يقوده الديمقراطيون اليوم ورئيسهم «أوباما» أداة تغير أو قوة قادرة على إعادة رسم معالم المنطقة.
مع كل هذا، فإن الخلل لم يكن من الولايات المتحدة فقط عندما صدر من إحدى مؤسساتها مثل هذا القرار الذي أعدته الكتل الشيعية ومن قبلها إيران تدخلاً سافراً في الشأن العراقي ودعوة خارجية إلى تقسيمه، فقد كان الظلم الأعمى وسياسة الكيل بمكيالين الذي انتهجته حكومات حزب الدعوة (ومن ضمنها بل وأكثرها خبثاً حكومة العبادي)، هو السبب الرئيس بأن يلجأ أهل السُّنة إلى أي طرف خارجي يمكن أن يعيد لهم حقوقهم المسلوبة وأراضيهم المُغتصبة ويوقف مسلسل التهميش والإقصاء والاستئصال الذي تحرص الحكومات العراقية على إرضاء إيران من خلال تنفيذه.
لقد كان على رأس شروط مشاركة أهل السُّنة في حكومة العبادي هو إقرار قانون الحرس الوطني القاضي بتسليح قوات من أهالي المحافظات السُّنية من أجل الدفاع عن مناطقهم بعد أن ذاقوا الأمرين من فساد وطائفية القوات العسكرية والأمنية الشيعية المتواجدة غصباً في مناطقهم، ولكن وكالعادة مع كل الحكومات الشيعية في العراق؛ ما إن تشكلت حكومة العبادي وخف الضغط الدولي على الائتلاف الشيعي المُتهم بالفساد والاستئصال في العراق من خلال وعود العبادي الكاذبة والمدلسة بإصلاح الأمور، حتى انقلبت الكتل الشيعية على قانون الحرس الوطني واعتبروه تهديداً لوحدة العراق وخطوة نحو تقسيمه.
ولقد فضحت الجرائم بحق الإنسانية التي ارتكبتها مليشيات «الحشد الشعبي» في المحافظات السُّنية ذلك المشروع الساعي لإذلال أهل السُّنة وتجريمهم وإلصاق تهم الإرهاب بهم وكونهم جميعاً وبلا استثناء حواضن لتنظيم «داعش»، ليكون ذلك مبرراً لاستباحة دمائهم وتجريف أراضيهم بل ومنعهم من العودة إلى ديارهم من أجل سلبها وإعادة توزيعها على مجرمي المليشيات في مشروع التغيير الديموجرافي الذي ما انفكت إيران وأحزابها الشيعية في العراق تسعى لتحقيقه، وهذا ما أعاد العراق إلى مربع عدم ثقة المجتمع الدولي بالإدارة الشيعية للعراق وحكوماته المليشياوية، ولعلها الفرصة المُثلى لأهل السُّنة باستعادة ولو بعض حقوقهم من خلال الاستنجاد بالقوى العربية أو الدولية لإيقاف هذا المشروع الخبيث، وقد أدرك الجميع فساد القوم وحقيقة نواياهم.
التقسيم قادم لا محالة
يسير العراق نحو التقسيم لا محالة، والحديث اليوم هو ليس حول قبول قرار التقسيم من عدمه، وإنما حول كيفية وآلية التقسيم ورسم حدوده، وما هي قدرة كل مكون على التمدد على حساب مساحة إقليم الآخر، فبينما يبسط المكون الشيعي اليوم أذرعه المليشياوية المدعومة بالجهد الإيراني الميداني على جل المحافظات السُّنية وعينه على المناطق المتنازع عليها مع الأكراد، نجد الأكراد وقد تجاوزوا الحديث عن الإقليم إلى خطاب المطالبة بالدولة الكردية المستقلة، وهو العنوان الأكبر لزيارة الرئيس «البارازاني» إلى واشنطن ولقائه «أوباما»، في خطوة لا تعد تحقيقاً لأحلام شعب بالاستقلال فحسب، وإنما هروباً من أطماع شيعية أدرك الأكراد أنهم لن يسلموا منها مادام الشيعة هم شركاء الوطن، أما السُّنة، فقد كان ابتلاؤهم بعدد غير قليل من السياسيين من أبناء جلدتهم أشد وأقسى من الآخرين، وهم يبيعون أراضيهم وأهلهم مقابل دراهم معدودة، ولكن يبقى الأمل بعد الله بقيادات نحسبها مخلصة تحاول تقديم مصلحة أهلهم على مصالحهم الشخصية، وترسم معالم مشروع جديد يُخرج العرب السُّنة من ضيق المشروع الإيراني الاستئصالي إلى سعة الإقليم الذي يسع بكرامة أهل السُّنة ويمنع عنهم شرر الطائفية المقيتة من حكومات حزب الدعوة الطائفية.