أعلنت الخرطوم أمس وفاة الشيخ د. حسن عبدالله الترابي بالسودان؛ إثر علة لم تمهله كثيراً، حيث نُقل إلى المستشفى حتى فاضت روحه بعدها بساعات إلى بارئها.. نسأل الله له الرحمة والمغفرة.
برزت شخصية الترابي في العمل العام إثر خطبه البارعة التي ألهمت جماهير السودان، وخاصة الطلاب، للخروج إلى الشارع في مظاهرات هادرة سقطت على أثرها حكومة الفريق عبود العسكرية في أكتوبر 1964م، بمشاركة زعماء من بعض الأحزاب السودانية الأخرى.
وكان وقتها عضواً في حركة الإخوان المسلمين بالسودان.
وفي الانتخابات الداخلية (السرية) تم اختيار د. حسن الترابي أميناً عاماً لجماعة الإخوان المسلمين بالسودان بعد أن تنازل له ودعمه الشيخ صادق عبدالله عبدالماجد، الزعيم الروحي للإخوان المسلمين بالسودان وقتها.
ومنذ الستينيات، ظل د. الترابي أميناً لحركة الإخوان المسلمين بمسمياتها المختلفة اللاحقة حتى وفاته.
وخلال هذه السنوات انشقت عن ولايته عدة فصائل كان أبرزها فصيل الإخوان المسلمين بالاسم القديم بقيادة الشيخ صادق عبدالله أواخر السبعينيات.
تلته حركة الانشقاق الكبيرة التي قادها نائبه المحامي علي عثمان محمد طه مستنصراً ومتضامناً مع قوى الحكومة بقيادة الرئيس عمر حسن أحمد البشير، حتى أصبح هذا الفصيل المنشق هو الأقوى والأكثر قاعدة.
وبعد سنوات ونتيجة وساطات عديدة من داخل السودان وخارجه ثم التقارب بين الفصيلين في تشكيل وتنسيق وليس وحدة نتج عنه وقف العداءات والمراشقات من خلال التصريحات الإعلامية الساخنة بين الطرفين.
ثم مؤخراً تضامن الطرفان في إخراج حوار وطني يضم الأحزاب السودانية بجانب الفصائل المسلحة، وقد نجح الحوار الوطني بنتيجة كبيرة سُلمت مخرجاته للرئيس البشير للمراجعة والإعلان الرسمي.
كان د. الترابي – يرحمه الله تعالى – ذا بُعد متقدم في فكره السياسي وتنظيراته التكتيكية ومناوراته قبالة الأحزاب التقليدية القديمة ذات القاعدة التاريخية العريضة، حتى تمكن حزبه حينها (الجبهة الإسلامية) من منافسة الحزبين الكبيرين وانتزاع الكثير من مواقعها لصالح حزبه الذي بدأ يتنامى حتى تمكن من قلب حكومة الأحزاب بانقلاب عسكري ما زال يحكم حتى اليوم.
يعتبر د. الترابي مفكراً إسلامياً سياسياً له مدرسته الخاصة المختلفة نوعياً عن خطاب ومناهج الحركات الإسلامية الأخرى بالعالم المنطلقة من فكر الإخوان المسلمين، ويتميز فكره بالجرأة والتفلت على القيادات الإخوانية المحلية بالسودان والعالمية خاصة قيادة “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين”، حتى انشق عنه بالفصيل الأكبر بالسودان، وبقي فصيل جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الشيخ صادق عبدالله، المناهض لأفكار د. الترابي الجريئة المنفلتة، على التزامه وارتباطه بفكر وتنظيم “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين”، متمسكاً بمبدأ الأولوية للتربية، في حين يقود د. الترابي تيار الأولوية للسياسة والعمل العام، حيث خاض هذا التيار المعارك السياسية الشرسة ضد الأحزاب الكبرى المناوئة له حتى سيطر على الشارع السياسي والنقابات واتحادات طلاب الجامعات والثانويات حتى انتهى به المطاف إلى حكم السودان بواسطة ثورة الإنقاذ الوطني.
وبعد أن نجح د. الترابي في قيادة جماعته سياسياً بحكم السودان، كذلك نجحت حكومة الإنقاذ في تحقيق الكثير من الانتصارات العسكرية في جنوب السودان مما أكسبها تأييداً واسعاً وسط جماهير شمال السودان، غير أن هذه الانتصارات قد انتهت إلى فصل جنوب السودان عن شماله؛ مما اعتبر إخفاقاً في حق حكومة الإنقاذ، وبعد توطيد أركان حكم حكومة الإنقاذ لأكثر من ربع قرن انشغلت قيادات كثيرة، رئيسة ووسطية، من الحركة الإسلامية الحاكمة باسم “حزب المؤتمر الوطني الحاكم” بالمسؤوليات والمهام والأنشطة السياسية، فاستدرجتها شهوة الحكم وفتنتها السلطة حتى انحرفت نسبياً عن جادة وخلق ومبادئ الجماعة الإسلامية التي قامت عليها، وهنا استبانت الفروقات ما بين “مدرسة التربية” التي تنادى بها الشيخ صادق عبدالله عبدالماجد، و”مدرسة السياسة والتجديد” التي تنادى بها د. حسن الترابي، حتى ضعفت الحركة الإسلامية مؤخراً من حيث الالتزام الديني والحركي والأخلاقي، وبدأت سمعتها الطيبة السابقة تتأثر كثيراً نحو الأدنى، كما ضعف نشاطها الديني، ومن أقوى أسباب ذلك بعض الممارسات الخاطئة من مسار حكومة الإنقاذ التي يسيطر عليها مسؤولو الحركة الإسلامية والتي تحسب خصماً من سمعة الجماعة وحزبها “المؤتمر الوطني الحاكم”، وبالختام لا يصح إلا الصحيح!
وفي ميدان آخر، فقد تميز د. حسن الترابي بجرأته في الفتوى الشرعية، مخالفاً لما هو متعارف عليه بين أهل الكتاب والسُّنة، هذا بجانب سخريته اللاذعة لعلماء الأمة التقليديين داخل السودان وخارجه؛ مما أثار غضب العلماء التقليديين عليه حتى وصفه بعضهم بالزندقة والكفر، وقد تبعه في فتواه بشراسه الكثير من الشباب وعدد من علماء التجويد بالعالم الإسلامي.
هذا فضلاً عن تعليقاته السياسية اللاذعة في حق بعض الحكام العرب أثارت ضده الكثير من العداءات، ومما زاد الطينة بله آراؤه إزاء أزمة الكويت – العراق، فآلت به نزعته للمدرسة الفكرية السياسية التجديدية إلى مآلات أخرى.
ختاماً؛ فإن د. حسن الترابي – يرحمه الله تعالى – لو احتفظ بما نصحه به الكثيرون بخانة (المفكر الإسلامي) وأصبح منظراً لحركة الفكر الإسلامي العالمي ومدافعاً عنها أمام الغرب لما فاقه أحد من المفكرين المعاصرين في هذا المضمار، ولأكتسب مكانةً عالمية مرموقة بين المسلمين، ولآثار أعجاب القرب به وبعرضه الذكي البليغ للفكر الإسلامي المعاصر بلغات تمكنه (عربية – إنجليزية – فرنسية)، فقد خاطب الغربيين من أرفع منابرهم، بما لم يتح لغيره من المسلمين المعاصرين، منافحاعن الإسلام بفكر عميق مقنع للقلعة الغربية متهكماً من الفكر الغربي بأقوى الأدلة المزلزلة للفكر لاستعلائه.
رحم الله المفكر الإسلامي د. حسن الترابي رحمة واسعة بقدر ما اجتهد وبذل وأسكنه فسيح جناته، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته، وارحم أمواتنا وأموات المسلمين أجمعين.