تشبه مسيرة تأسيس «حزب الله» مسيرات تأسيس التنظيمات والحركات الإسلامية في المنطقة بشكل عام؛ مجموعة من الشباب المتديّن المثقف، المتأثر بالأجواء الإسلامية، الذي توزّع على مدارس فكرية وثقافية وله تجارب تنظيمية أو محاولات تشكيل أطر عمل إسلامي، يتحالف لتشكيل إطار أو حزب جامع لهؤلاء.
هذه الأجواء التي سادت في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أثّرت على أجواء تشكيل «حزب الله»، في ظلّ توجّه المجتمعات نحو الإسلام، وتراجع ظاهرة اليسار، وبروز علماء أثّروا في الدعوة ونجحوا في تشكيل أطر دينية وثقافية واجتماعية ساهمت في تأسيس عمل أكثر تنظيماً وتماسكاً.
نواة التأسيس
النواة التي تأسس منها «حزب الله» كانت نواة شبابية إسلامية، تأثرت بصعود جماعة الإخوان المسلمين وأفكار سيد قطب، وتنظيم حزب الدعوة في العراق، وتأثّرت كذلك بأفكار الإمام موسى الصدر، والسيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وهؤلاء الثلاثة نشطوا في لبنان.
انتصار الثورة في إيران عام 1979م دفع عدداً من علماء الشيعة في لبنان والشباب المتدين للتقارب أكثر مع القيادة الإيرانية، وكان من بين هؤلاء مجموعة تنتمي لحركة «أمل» التي أسسها الإمام موسى الصدر.
ومن بين العلماء والقيادات الذين فتحوا قنوات تواصل مع إيران كان إبراهيم أمين السيد (ممثل حركة أمل في طهران في ذلك الوقت)، وأصبح ناطقاً رسمياً لـ «حزب الله» عام 1985م، والشيخ صبحي الطفيلي، والشيخ عباس الموسوي، وتشكلت في لبنان «اللجان المساندة للثورة الإسلامية في إيران»، وبدأ توجّه علماء الدين الشيعة في لبنان ينتقل من النجف في العراق إلى قيادة الثورة الإيرانية ومؤسسها الخميني.
مرحلة التأسيس
في تلك الفترة، ناقشت المجموعات الإسلامية المختلفة كيفية الاستفادة من التجربة الإيرانية، ووضعت ورقة عمل، حملها تسعة من قياداتهم لإيران، وأكدوا فيها تشكيل إطار إسلامي موحّد يعتمد على الإسلام وولاية الفقيه، ومقاومة الاحتلال «الإسرائيلي» للبنان.
هنا وُلد «حزب الله»، بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982م، ملتزماً بولاية الفقيه الذي بات هو المرجعية الوحيدة للحزب في القضايا الدينية والسياسية والتنظيمية، وهو يحدّد السلوك والتوجهات، ويرسم القواعد، ويمنح الشرعية لقيادة الحزب المنتخبة، ويوفر الدعم للحزب بكل تشكيلاته.
على هذا الأساس تشكل «حزب الله»، وكانت أعماله تقاد بطريقة جماعية من هيئة مكونة من خمسة أفراد، اسمها «شورى القرار»، وفي عام 1985م أعلن عن تكليف إبراهيم أمين السيد مهمة الناطق الرسمي، ثم انتُخب الشيخ صبحي الطفيلي أميناً عاماً عام 1989م، وأضيف شخصان إلى «شورى القرار» فأصبح عددها سبعة، وانتُخب الشيخ عباس الموسوي عام 1991م أميناً عاماً للحزب، لكنه اغتيل في فبراير عام 1992م في جنوب لبنان، ثم انتُخب حسن نصر الله أميناً عاماً في مايو 1993م ولا يزال إلى اليوم.
هيكلية «حزب الله»
تتألف هيكلية «حزب الله» من أعضاء «شورى القرار»، وهم إطار قيادي منتخب كل أربع سنوات، ويكون الأمين العام للحزب من بينهم.
وهناك خمسة مجالس هي:
1- المجلس السياسي: ويدير الملفات والعلاقات السياسية، ويقدّم التحليل السياسي.
2- المجلس الجهادي: ويشرف على القوى العسكرية والأمنية وقضايا التدريب والتسليح والدعم والإسناد والتجسّس.
3- المجلس التنفيذي: ويدير نحو 40 مؤسسة إعلامية وتربوية واجتماعية واقتصادية.
4- مجلس العمل النيابي: ويدير أعمال النواب والانتخابات والعلاقات النيابية ودراسة القوانين والمقترحات والعلاقة مع الحكومة.
5- المجلس القضائي: ويشرف على أعمال فضّ النزاعات والحكم في التجاوزات الداخلية للأفراد.
ويدير «حزب الله» مجموعة من المؤسسات ذات الطابع الخدمي والإنمائي، مثل:
– مؤسسة «جهاد البناء» التي تُعنى بأعمال الإعمار والترميم والبنية التحتية، وتطوير المناطق الزراعية.
– الهيئة الصحية: وهي مؤسسة تقوم بالخدمات الطبية والاستشفائية، ولها 50 فرعاً في لبنان.
– هيئة دعم المقاومة: وهي مؤسسة تجمع التبرعات، وتنفّذ أنشطة لدعم فكرة المقاومة.
– مؤسسة الإمداد: وهي مؤسسة توفر الدعم للفقراء والأيتام والعجزة.
– مؤسسة الجرحى: ترعى شؤون جرحى ومصابي عناصر «حزب الله».
– مؤسسة شاهد: تشرف على مدارس وفروع تربوية.
– كشافة المهدي: تستوعب الشباب في أطر العمل الكشفي، ويزيد عددهم على 50 ألف عضو.
ولـ «حزب الله» مؤسسات وجمعيات وقطاعات عمل مختلفة مثل: المهن الحرة، الإنتاج الإعلامي، المرافق السياحية، مؤسسات وروابط العلماء، الحوزات والمدارس الدينية، الهيئات النسائية.
وللحزب أذرع إعلامية مثل: قناة «المنار»، إذاعة «النور»، مؤسسات إنتاج فني، مطابع، موقع جريدة «الانتقاد» (جريدة «العهد» سابقاً).
شارك «حزب الله» في الانتخابات النيابية في لبنان لأول مرة عام 1992م، وحصل على 12 مقعداً، وواصل مشاركاته إلى اليوم، وله كتلة نيابية (الوفاء للمقاومة) من 14 نائباً، وشارك في الحكومة اللبنانية منذ عام 2005م.
نقاط القوة
استفاد «حزب الله» من مجموعة من مصادر القوة، أهمها:
1- دعم إيراني مطلق: يتبع «حزب الله» لإيران بشكل مطلق، ويُعتبر المرشد الأعلى في إيران مرجعيةَ «حزب الله» الأساسية، وتشرف إيران على كل القضايا المتعلقة بـ «حزب الله» مثل: الإدارة والتخطيط، والتسليح، والتمويل، والتدريب، وتوفير الدعم الاقتصادي والمالي، وتأهيل الكوادر داخل إيران وخارجها.
وتساهم المؤسسات الإيرانية الرسمية والخاصة في توفير دعم مالي واجتماعي يصل إلى مئات ملايين الدولارات سنوياً.
وعملت إيران على حصر تمثيل الشيعة في لبنان بـ «حزب الله»، وأجبرت العلماء والمؤسسات الشيعية على أن يكون مرورهم إلى إيران من خلال «حزب الله»، وصار أمين عام «حزب الله» هو ممثل الولي الفقيه سياسياً في لبنان، ولاحقاً في المنطقة العربية.
2- الإسناد السوري: أيّد النظام السوري الثورة الإيرانية، وسمح «حافظ الأسد» لإيران بنقل العناصر والمدربين والسلاح إلى «حزب الله» في شرق لبنان، ونسجت القيادتان السورية والإيرانية تفاهمات كثيرة حول لبنان، كان أهمها عام 1996م باللقاء الذي جمع «خامنئي» بـ «حافظ الأسد» في دمشق، وفيه تمّ التوافق على تمدّد «حزب الله».
واستطاعت إيران أن تستخدم الأراضي السورية كمعبر للدعم المباشر لـ «حزب الله»، كما استفاد «حزب الله» من السياسة السورية في لبنان، خاصة لجهة السيطرة على شؤون الدولة وأجهزتها.
وتمكن كل من إيران وسورية و «حزب الله» من تجاوز الخلافات والصراعات المسلحة التي وصلت حدّ الاقتتال، كما حصل عام 1987م، وأدى لقتل العشرات من عناصر الحزب، وإطلاق النار على موكب الأمين العام للحزب الشيخ صبحي الطفيلي، ومقتل 40 عنصراً من «حزب الله» في ثكنة فتح الله في بيروت.
وسمح النفوذ السوري في لبنان بدعم الحضور العسكري والسياسي والشعبي والإعلامي لـ «حزب الله»، وبانتشاره، وبتصفية خصوم الحزب أو تحجيمهم، وبالتغلغل في مؤسسات الدولة.
هذا الدعم الإيراني والسوري المطلق لـ «حزب الله» سمح له باحتكار أعمال المقاومة ضدّ «إسرائيل» انطلاقاً من جنوب لبنان، وبإضعاف حركة «أمل» التي دخل الحزب في صراع مسلح معها أدى طوال أربع سنوات إلى إخراج حركة «أمل» عسكرياً من عدة مناطق، أهمها إقليم التفاح، ومقتل حوالي 500 شخص، وبتحجيم نفوذ الأحزاب الشيوعية واليسارية، حيث تم اغتيال أبرز كوادر ومفكري الحزب الشيوعي في لبنان.
3- ضعف الدولة اللبنانية: النفوذ السوري والإيراني القوي في لبنان تزامن مع ضعف الدولة اللبنانية، فغياب الرئيس القوي في لبنان، وضعف المؤسسات العسكرية والأمنية، وضعف الأداء الحكومي، والبنية الطائفية للدولة والمجتمع، وتراجع أداء المؤسسات والتنمية، وغياب بنية الدولة، كل ذلك سمح لـ «حزب الله» بالتمدد والتأثير.
4- خروج الفلسطينيين: حيث إن خروج الثورة الفلسطينية من لبنان عام 1982م، بعد الاجتياح الصهيوني، أضعف التأثير الفلسطيني، وأضعف دور أهل السُّنة في لبنان، وهو ما سمح بترك الساحة خالية أمام «حزب الله»، خاصة بعد معارك طرابلس مع ياسر عرفات عام 1983م، وحرب المخيمات عام 1985م.
5- تراجع الدور العربي: قام النظام الرسمي العربي بتسليم سورية مفاتيح الحل والقرار في لبنان، وأدارت دمشق الحياة السياسية والحزبية في لبنان بدون تدخلات خارجية جذرية، مثل تعيين رؤساء الجمهورية والحكومة والوزراء، والتوظيف، والتحكّم في القرار السياسي والخارجي للدولة اللبنانية وعلاقاتها، في حين كانت الدول العربية والإسلامية الكبرى غائبة، ولا تقدّم الدعم المطلوب لأهل السُّنة؛ ما سمح بوجود تفاوت كبير بين المجتمعين السُّني والشيعي.
6- فلسطين ومقاومة الاحتلال: رفع «حزب الله» شعار القضية الفلسطينية، وتبنّى خطّ مقاومة العدو الصهيوني، ونسج علاقات قوية مع مختلف القوى الفلسطينية، وفتح علاقات واسعة مع شرائح فلسطينية مختلفة، ووفر الدعم العسكري والمالي والاجتماعي للعديد من القوى الفلسطينية، وخاض عدة حروب مع «إسرائيل»، ونفّذ عمليات عسكرية، وتمكّن من طرد الاحتلال من لبنان عام 2000م.
كل هذه القضايا اعتُبرت نقاطاً إيجابية في سجل «حزب الله»، وأكسبته مصادر قوة وشعبية.
نقاط الضعف
رغم كل مصادر القوة التي يتمتع بها «حزب الله»، فإن هناك نقاط ضعف واضحة، أهمها:
1- اتهامات: يُتهم «حزب الله» من أطراف دولية بتنفيذ عمليات تفجير، مثل تفجير مقرّ القوات الأمريكية قرب مطار بيروت عام 1983م، وتفجير السفارة الأمريكية، وخطف عدد من الرهائن الأمريكيين والأوروبيين وقتلهم.
ووضعت الولايات المتحدة «حزب الله» على قائمة الإرهاب عام 1997م، وتفرض قيوداً على معاملاته وتنقلاته.
2- المواجهة مع «إسرائيل»: عام 2006م، وافق «حزب الله» على القرار الدولي رقم (1701) الذي قيّد أداء «حزب الله» العسكري، ورغم استعداداته المتواصلة، فإن الأداء العسكري ضدّ «إسرائيل» تراجع كثيراً، ولم تسجل الأعوام العشرة الأخيرة إلا أعمالاً محدودة في المكان والزمان والتأثير ضدّ قوات الاحتلال، مع بروز حالة داخل جمهور «حزب الله» ترفض معارك أو حروباً جديدة.
3- التدخّل في سورية: بات تدخّل «حزب الله» في سورية إلى جانب نظام «الأسد» واضحاً جداً، وهذا كان له تأثير سلبي كبير على الشعب السوري الذي ساند الحزب، واليوم هناك حالة من الرفض والعداء الشعبي السوري ضدّ «حزب الله»، وهذا يفتح أمام الحزب جبهة جديدة من المواجهة بعدما خسر آلاف الكوادر.
وصار لدى «حزب الله» اليوم خصوم كثر من القوى الحزبية الإسلامية والعربية في المنطقة، واتسعت هذه الحالة مع اتهام «حزب الله» بالتدخل في البحرين واليمن والسعودية والكويت، وأصبح «حزب الله» يُتهم أنه وقف ضدّ الثورات العربية، وساند أنظمة القمع.
4- ضعف الغطاء السُّني: استفاد «حزب الله» كثيراً من الجماهيرية التي حصدها بسبب مقاومته الاحتلال، لكنه اليوم خسر معظم مظاهر التأييد السُّني له، وهذا الأمر له تداعيات خطيرة في ظل حالة التوتر والانقسام التي تعاني منها المنطقة.
5- اغتيال الحريري: يُتهم «حزب الله» بالوقوف وراء اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري عام 2005م، ولا تزال أعمال المحكمة الدولية الخاصة بلبنان متواصلة، وفي حال أثبتت المحكمة التهمة على «حزب الله» فإنه سيتعرّض لعقوبات.
6- تجفيف الأموال: رغم الدعم الإيراني، فإن «حزب الله» يبحث عن مصادر تمويل أخرى لتغطية حاجاته، وخلال السنوات الأخيرة اتسعت دائرة الضغوط الدولية وعمليات الملاحقة المالية لحسابات الحزب وتحويلاته ومؤسساته.
7- الاغتيالات: تعرّض «حزب الله» لعمليات اغتيال كثيرة، مثل اغتيال عماد مغنية عام 2008م، واغتيال عدد من كوادره خاصة في سورية، وترافقت الاغتيالات مع فقدان الحزب مئات الكوادر والعناصر المؤهلة في حربه داخل سورية.
8- التجسّس: يتعرّض «حزب الله» للملاحقة، وخلال السنوات الماضية كُشفت عدة شبكات تعمل لصالح المخابرات «الإسرائيلية» والأمريكية في صفوف الحزب، منها قيادات أمنية ومسؤولون كبار في العمليات الخارجية.
9- الحرب الناعمة: يتعرض حزب الله اليوم لمواجهة لها شكل آخر، فبعد تدخّل الحزب في أكثر من دولة عربية، أصبح القرار العربي يميل إلى وصف «حزب الله» بالإرهاب، وجاءت قرارات وزراء الداخلية والخارجية العرب وجامعة الدول العربية باعتبار «حزب الله» إرهابياً، لتظهر أن الأجواء العربية تغيرت في التعامل مع الحزب، وأن المواجهة في المستقبل لن تكون مسلحة، خاصة في ظلّ إمكانية محاربته عن طريق إقدام المجتمعات الخليجية على التخلص من مؤسسات أو شركات أو أفراد محسوبين على «حزب الله».
10- الصراعات الداخلية: بغض النظر عن ظهور «حزب الله» بمظهر الحزب الموحّد، إلا أن فيه صراعات داخلية ومراكز نفوذ، خاصة الخلافات بين نصر الله، ونائبه نعيم قاسم، حول الملفات العسكرية والأمنية والمالية، وصراع القوى ومعارضة قيادات للتدخل في الدول العربية، والخلافات على شبكات المصالح المالية والتجارية.
مسار المستقبل
يكاد يكون مستقبل الوضع في سورية من أهم النقاط التي تحدّد المسار الذي سيتّجه إليه «حزب الله» في المستقبل.
فسورية هي دولة داعمة للحزب، لذلك فإن أي تغيير فيها سيكون له انعكاس على مستقبل «حزب الله».
وسورية ساحة دعم سياسي وعسكري للحزب، وفيها خزان بشري، كما أن التنسيق الروسي «الإسرائيلي» فيما يخص سورية مؤشر على مآل الأمور في المستقبل.
وبالتالي أصبح ملف «حزب الله» مرتبطاً بكل المتغيرات التي تعيشها المنطقة، ومنها مستقبل الدول والحكومات والأنظمة والطوائف والحدود والأحزاب، وأدوار الجيوش والقوميات.
ولا شكّ أن مفاعيل الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني، والتوافق الأمريكي الروسي، سيؤثران سلباً على نفوذ إيران، ودورها، وسيدفع «حزب الله» ثمن تدخلاته في المنطقة.