هكذا جرى قدر الله أن أكون شاهداً الصدمة الأولى، بل ومبلغها، هكذا كان قدر الله أن أسافر إليه وحيداً وأن أرجع معه وحيداً، فقد كان عني في شغل بصلاته، مشهد الصدمة الأولى مشهد لا ينقضي منه العجب، عندما نرى كيف تتحول الوصايا إلى مواقف، وكيف تتمثل المثاليات في مشاهد، وكيف يتنزل مدد الله على القلوب المفجوعة الكلمى سكينةً ورضاً وإيماناً وبردَ يقين.
إن رد الفعل عند الصدمة الأولى لا يمكن التصنع فيه ولا التكلف له، إنها لحظة تنطلق فيها الانفعالات من مذخور اليقين في القلوب، ولذا جاء الدعاء النبوي: ومن اليقين ما تهون به علينا من مصائب الدنيا.
أما رحلتي إليه فهي من عجائب لطف الله في قدره إن ربي لطيف لما يشاء، فقد كنت أحاول ترتيب السفر أن أذهب صبيحة يوم الخميس لأنضم معه في مطار إسطنبول في رحلة مواصلة إلى هلسنكي للمشاركة في مؤتمر الأئمة في فلندا، ولكني وجدت ثقلاً في نفسي عن هذا الموعد وطلبت تقديمه لتكون الرحلة يوم الأربعاء لأبقى تلك الأمسية معه ثم ننطلق سوياً من الغد، وبعد طول محاولة شغر مقعد واحد في الرحلة المغادرة صباح الأربعاء والتي تصل إلى إسطنبول عصراً.
وصلت مطار إسطنبول وقد كنت عادة أصلها نهاراً ثم أزوره ليلاً أو ألتقي معه من الغد، إلا هذه الرحلة فقط استقبلني في المطار لنذهب أنا وإياه سوياً في مسير استغرق بقية يومنا، ثم دعاني أن أبيت عنده لننطلق من الغد سوية إلى المطار، هكذا كنا نقدر، ولله قدره النافذ، ومشيئته الغالبة، والله غالب على أمره.
دخلنا الشقة وجلسنا يسيراً وإذا بأخي خالد القفاري يتصل ويسأل: هل الشيخ قريب منك؟ أريد أن أتحدث إليك بعيداً عنه، وشعرت بأن غمامة سوداء توشك أن تغشانا، وأغلقت على أن أتصل به عندما يدخل الشيخ إلى داخل الشقة، ثم أتاني الاتصال بعد ذلك والشيخ قد انشغل بعيداً عني، فإذا بأبي هانئ الغماس يخبرني أنه قد حدث حادث لأبناء الشيخ وعليكم الرجوع فوراً وسنرتب حجزكم، وحاولت أن أعرف حجم الإصابات، أما الوفيات فلم تخطر مني ببال، فأخبرني أنه هناك إصابات، ولكن بعضها بالغ، ولما خرج الشيخ تلقيته أسابق وصوله إلى جوالاته حتى لا يجد فيها ما يفجعه، فقلت له: علينا أن نرجع فإن الأبناء قد حصل لهم حادث يستوجب رجوعنا فقال فوراً بإذن الله نرجع الآن، ولكنه سبقني إلى الهاتف ليتصل بابنه البراء ويسأله وكانت الفجيعة في الجواب.
رأيته وهو يتصل بالبراء فأخبره بالحادث، فسأل فوراً هل هناك وفيات، ثم سمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولما انتهت المكالمة قام وهو يحمد الله ويسترجع، فسألته عما حدث قال: أم البراء وهشام توفيا؛ إنا لله وإنا إليه راجعون، الحمد لله، الحمد لله، فتلبستني حالة الإنكار وفزعت بآمالي إلى الكذب، وقلت له: لا، لم يخبرني خالد بذلك، هذا ليس أكيداً، فقال لي: الظاهر أنه أكيد، ثم اتصل خالد القفاري بعد قليل ليؤكد الخبر، وبقيت متشبثاً بحالة الإنكار، أما الشيخ فقد عبر مرحلة الإنكار سريعاً حتى لا أدري أعبرها أما قفزها، وبدأ يتعامل مع المصيبة وقد استحضرها تماماً بالحمد والاسترجاع، لا أحصي كم سمعت الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله بلهج لا ينقطع، وثبات لا يتزلزل، لم أر عبرة ذارفة، ولم أسمع شهقة بكاء، وإنما استرجاع وحمد، يستجمع به عزيمة الصبر، وفضيلة الرضا، وكان يستعين على ذلك بتكرار الحمد؛ الحمد لله، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، يا الله! هذه الكلمة كان ينبغي أن تقال له، وأن يُذَكَّر هو بها، لكنه الآن يَذْكرها ويذكرِّ بها نفسه، ليعبر الصدمة الأولى بالصبر الجميل والرضا عن الله بما قضى.
وتوجهنا للمطار فقد حجزنا على رحلة تعود إلى الرياض بعد ثلاث ساعات، وفي الطريق لم أستطع أن أعبر عما يعتلج في نفسي، فقد أُلجم لساني وتشتت الكلمات في ذهني، ولم أجد ما أعبر به إلا أن أشد بيدي على يد الشيخ فإذا به يلتفت إليّ ويقول: أم البراء فقيدتي؛ هذه هي الكلمة الأولى التي ذكر فيها الفقيدة وكأنما يزفر بذكرها لوعته، ولم أجد ما أعبر به فقد تبخرت الكلمات وتبعثرت، ولا أزعم أن مصابي مثل مصاب الشيخ فضلاً عن أن يفوقه لكني كنت أعيش حالة الإنكار، وأقول له: أسأل الله أن يكون الخبر دون ما نتوقع أو نخشى، فقال لي: أما الخبر فأكيد، ثم حول فجأة مساق الحديث فقال: أما أنا فلا بد أن أرجع، ولكن أحب أن تذهب أنت إلى المؤتمر وتقدم ما يمكن تقديمه فقد انتظرونا جميعاً واجتمعوا لذلك فلا يحسن أن نتخلف عنهم جميعاً، وعجبت: رباه حتى في هذا الكرب يحضرهم الدعوة والدعاة في قلبه، ويريد أن يؤثرهم ببعضه! لقد نسيت المؤتمر منذ سمعت الخبر، وها هو يتذكره باهتمام ويريد أن نتقاسم المهمة، فقلت: شيخي طريقي وإياك واحد.
دخلنا المطار لأشهد مشهداً مدهشاً فها نحن نسير في البهو، ونحن نغالب فجيعتنا، والشيخ يطوي جوانحه على ثكله فيتلقاه شباب يعرفونه ويحبونه ولكنهم لا يعرفون الخبر، ولم يشعروا بعد بالمصاب، يقابلونه بحب، ويبتسمون له بود، ويسألونه سؤال الفارغ للقاء من يحب، الغافل عن مصابه: يا شيخ ممكن نصور معك؟ فترتسم على وجهه ابتسامة المجاهدة، ويقول: تفضلوا، وأنا في حال من الاندهاش؛ فنحن في شأنٍ وهم في شأنٍ آخر، ولكن الشيخ يعلم أن هؤلاء سألوا بعفوية المحب، وأنه لا يمكن أن يعتذر منهم مهما كان مصابه، ولا أحصي عدد الذي استوقفوه فيقف لهم بأناة، ويبتسم لهم بود، ويصور معهم من غير أن يَشعر أيٌّ منهم بحقيقة حاله أو يحس بمعاناته، حتى إذا دخلنا قاعة المغادرة لقيه شاب وسأل كما سأل غيره أن يصور معه فاستجاب له الشيخ بذات الود والحفاوة، فلما رأى الشاب إقبال الشيخ عليه وتلطفه به قال: يا شيخ والدي قدم الآن من ألمانيا وهو هناك وأرجو أن تذهب معي لتسلم عليه فهو يحبك، وأجاب الشيخ بدون أدنى تردد: هيا، هيا بنا إليه، ومضينا إلى والده فإذا هو شيخ يتكئ على عصاه، فلما رأى الشيخ مقبلاً قام فسلم عليه الشيخ واحتفى به وقال له مؤانساً: الآن رأيناك بهذه العصا، ولكن أريد أن أراك المرة الأخرى وقد ألقيتها وعدت شاباً، يالله! أما زال في قلبه متسع أن يلاطف هذا الأب، ويدفن حزنه وفجيعته ليستخرج ابتسامة فرح من هذا الشيخ، يالله! أي صلابة في هذه النفس! وأي إيثار بالسعادة للغير! هذا ما لا يمكن تكلفه ولا التظاهر به ما لم تدفع إليه نفس سوية زكية، فلما جلسنا في قاعة الانتظار أتانا هذا الشاب ملتاعاً يعتذر إلى الشيخ ويقول: الآن علمت بخبر الأهل من “الواتس”، اعذرني يا شيخ لم أكن أعلم، فجعل الشيخ يؤانسه ويلاطفه ويهون الأمر عليه، فمضى عنا ذاهلاً مما رأى وما سمع، وقد كان ذلك والله مذهلاً.
فلما ركبنا الطائرة جلسنا في مقعدين متجاورين، ولكن الشيخ فزع إلى الصلاة فتركته مع صلاته ففيها راحته وسلوته ومناجاته، وكانت سبحاً طويلاً وصلاة مستغرقة وكنت خلفه أغفو وأفيق وهو في سبح طويل، وكنت كلما أفقت تعود إليَّ حالة الإنكار وأقول: لعل ما سمعته كان حلماً، فإذا رأيت الشيخ في صلاته علمت أن الحلم هو ما أحاوله.
وصلنا إلى الرياض فجراً وفي المطار كان أصدقاء الصدق وأبناء الود خالد القفاري، وعبدالرحمن النصيان، وسليمان أبا الخيل في استقبالنا في المطار، انطلقنا من المطار فوراً إلى المستشفى لنرى المصابين.
دخلنا على عبدالرحمن فإذا هو في غيبوبة عميقة، ومضينا إلى لدن الطفلة الصغيرة التي أبقاها الله له لتكون السلوى في هذه الفجيعة، والأنيس في هذا المصاب، كانت نائمة فنحن في الساعة السادسة صباحاً، فجعل الشيخ يهدهد رأسها بكفيه، ويوقظها حتى فتحت عينيها، ومدت إليه يديها كأنما تحضن بكفها الصغيرة قلبه الكبير، وتداوي بنأماتها وكلماتها فجيعته، وكأنما استرد بلقياها وحديثها بعض نفسه وقطعة قلبه، وكأنما حيوية هذه الطفلة أعادت له الحياة، فأدنى وجهه إلى وجهها، وطوق بيديه رأسها، واختلطت أنفاسهما في مشهد وداد، وعاطفة أبوة معبرة، وتفاعل وجداني مؤثر، ومهما صورت المشهد فلن أستطيع رواية تلك المشاعر.
ذهبنا إلى شقراء ضحى، استقبلنا وقدم علينا أهل الحب والوداد الذين أتوا من القصيم والرياض والزلفي ونواحي المملكة ليشهدوا الصلاة مع الشيخ وليقفوا معه عند الصدمة الأولى وقبيل صلاة العصر دُعي الشيخ ليودع ابنه هشام بعد أن سجي وغسل، وذهب الشيخ وكشف له الوجه المسجى، في تلك اللحظة طفح تأثر الشيخ وسمح لفطرته أن تعبر عن نفسها ولطبيعته أن تنطلق على سجيتها، ففاض حزنه، وتفجرت الرحمة دموعاً تسح من عينيه، وغطى وجهه وأجهش في بكاء مكتوم تحسه ولا تسمعه، تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا هشام لمحزونون، وكانت هذه هي اللحظة الأولى التي رأينا فيها الدموع تذرف من النفس القوية المتماسكة، والقلب الصابر المحتسب، إنها رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، وكان مشهداً لتمازج القوة والرقة، والمصابرة والمرحمة.
ثم صحب الشيخ بنيه ليودع أمهم أم البراء بنظرات الوداع الأخيرة يتزود فيها ذكرى تغطي مسيرة حب، ورحلة عمر، رباه أهي النظرة الأخيرة قبل الفراق الطويل، نظرة تطوي صفحة صحبة طويلة وشراكة حياة، متاع قليل من حبيب مفارق.
دخل مغسلة النساء وأبناؤه معه، وقف هناك ودعا ما شاء الله أن يدعو، وتلقيناه خارجاً ومعه أبناؤه تسح العبرات من عيونهم، وهو يفيض عليهم من سكينته وصبره، ويدع لمشاعرهم الانطلاق لتنفس عن فجيعتهم بهذه الدموع الذارفة على الوجوه الطرية الغضة، تقدم الشيخ وصلى على الجنازة وأمامه ثلاث نعوش أم البراء وهشام وأسماء الشعلان ابنة أخت أم البراء.
وفي المقبرة وقف الشيخ على القبور الثلاثة، ودعونا جميعاً: اللهم اجعل هذه الليلة أسعد ليلة مرت عليهم، اللهم أكرم وفادتهم عليك، وأحسن منقلبهم إليك، اللهم بشرهم بروح وريحان ورب راض غير غضبان، اللهم ثبتهم على قولك الثابت وكان الجميع يدعو بخير أو يؤمن على الدعاء بخير.
كان الجمع حاشداً، واللهج بالثناء والدعاء عظيماً، ولا نحسب أن الله جمع لهيا السياري هذه الحشود إلا ليقبل شفاعتهم فيشفعهم فيها، ولا أطلق الألسنة بالثناء عليها بخير إلا وقد أراد الخير بها، ولا استنطق عباده بالدعاء إلا قد أراد القبول لها.
عاد الشيخ من المقبرة بعد أن ترك فيها زوجته وابنه وابنة خالتهم، عاد بعد ملحمة صبر ورضا وتسليم، ومشهد عظيم من مشاهد العبودية لله عز وجل في تلقي قضائه وقدره.
لقد رأينا شيخنا سلمان العودة في هذه الحال؛ فإذا هو مدرسة في الصبر والثبات واليقين، يسير بصبره الجميل في أثر أعرف الخلق بالله أنبيائه ورسله: إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب.
المصدر: “الإسلام اليوم” (بتصرف في العنوان).