منذ زمان بعيد كنت أقرأ فتاوى تحريم تجسيد الأنبياء والرسل في الدراما، بل تحريم الصحابة أيضاً، وكان بعض المتسامحين من شيوخنا يمنعون من الصحابة الخلفاء الأربعة وأهل البيت.
ظل الأمر مستقراً لشيوخنا زمناً حتى تفاجأنا بالدراما السورية، وهي تجسد معظم الصحابة، وأهل البيت كالحسن والحسين، ثم تطور الأمر إلى تجسيد الصحابة كلهم بلا استثناء في مسلسل عمر، وسبق الشيعة إلى ميدان تجسيد الرسل، فكانوا أول الأمر يجسدون الرسل ولا يظهرون الوجه بل هالة من النور موضعه كحالهم مع تجسيد زكريا عليه السلام، ثم تخلوا عن هالة النور هذه، فجسدوا يوسف الصديق وأيوب ومريم وعيسى، ووصل الأمر ذروته بتجسيد سيد الأنام محمد صلى الله عليه وسلم في فيلم أنتجوا الجزء الأول منه بالفعل، وهو يحكي حياته إلى حين البعثة.
وفي الوقت الذي نجح فيه الشيعة في الترويج لمذهبهم من خلال هذه الأعمال الفنية التي جذبت ملايين المشاهدات بين أبناء السُّنة أنفسهم، لايزال علماء وشيوخ أهل السُّنة متجمدين حول خلافهم في حكم التمثيل.
وانطلاقاً من هذا الوضع، أحب أن أسلّط الضوء على فن القصة والتمثيل في القرآن والسُّنة، ثم أتبع ذلك بما أراه واجباً على الصادقين من علماء هذه الأمة السُّنية.
(2)
القصة جزء من التاريخ، وهي تعكس ثقافة سائدة وحقائق واقعة، وعن طريقها يتناقل الناس التاريخ جيلاً بعد جيل.
والقصص – مسروداً محكياً أو ممثلاً – محبب للنفوس مؤثر على الجماهير لا ريب، حتى إن رسول الله ص غلبه الطبع البشري المحب للحكاية الهادفة، فقال حين نزلت عليه آيات سورة “الكهف” التي ذكرت قصة الرجل الصالح مع موسى عليه السلام معقباً: “يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا” (رواه الترمذي عن أبي بن كعب) وفي رواية أخرى قال: “رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ لَرَأَى مِنْ صَاحِبِهِ الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي” (رواه أبو داود).
لذلك فإن القرآن والسُّنة راعيا هذه الفطرة في الإنسان فاستعملا أساليب قصصية متنوعة، منها:
1- القصة الرمزية أو التعبيرية، كتمثيل الحياة الدنيا والبعث الآخر ورسم صورتهما بدورة المطر والنبات ثم موته ثم حياته، وهي في مواضع كثيرة من القرآن.
2- القصة الحوارية، كقصة موسى عليه السلام مع فرعون في سورة “الشعراء”.
3- القصة الصريحة: ولها أساليب متعددة: ومن ذلك في القرآن قصص الأنبياء، والقصص الوارد في سورة “الكهف”، وقصة ابني آدم، وغير هذا كثير، وأمثاله في السُّنة كثير أيضاً، ومن أشهر هذه الأحاديث حديث غلام الأخدود، وقصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار، وقصة تاجر بني إسرائيل، وقصة الرجلين اللذين وجدا كنزاً ولأحدهما غلام وللآخر جارية.
4- القصة التمثيلية، وهذه على وجه الخصوص أقرب النماذج للقصة في صورة مشهد تمثيلي، ومن أشهر أمثلتها حديث جبريل المشهور الذي رواه أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، والذي سأل فيه جبريل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ورسول الله يجيب، ثم قال: “يا عمر، أتدري من السائل؟”، قلت: “الله ورسوله أعلم” قال: “فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم” (رواه مسلم).
(3)
وإنني أرى من قصور أهل الإخلاص إهمالهم القصص والإنتاج الفني في محاربة الجهل والعري، والاكتفاء بالتحريم والوعظ المسجدي أو حتى الإعلامي في قنوات فضائية، والقعود السلبي عن الإنتاج في هذا المجال، حتى يصبح أهل الصناعة في هذا المجال من غير المتدينين، وربما من أصحاب الهوى سيئي النوايا، فيبثون في الناس أفكارهم ويزوّرون حقائق التاريخ قصدا وعمدا، ثم يقوم المخلصون بعد هذا ليردوا ويصححوا، ولكن هيهات.. إنهم يستيقظون في وقت يتسع فيه الخرق على الراقع ويكون الشر والزور قد استطار حتى ملأ الآفاق.
وأقصد بالإنتاج الفني هنا مجالين على وجه التحديد، وهما فن الرواية وفن التمثيل.
وتالله لجزء من عشرة أجزاء الجهد المبذول للتصحيح ومحاربة الرذائل المنتشرة بسبب فن القصة السيئ أنفع مرات مضاعفة لو بذل في مجال الإنتاج الإيجابي لمسلسلات وروايات.. ولا أبالغ لو قلت: إنه يجب على متديني هذه الأمة المخلصين أن يبذلوا ما استطاعوا في سبيل إنتاج صحيح للقصص الهادف المتسق مع الدين، قبل وجوب التصحيح ورد الزور والمنكر مما انتشر.
إن الإنتاج القصصي التمثيلي جاذب للجماهير حتى منذ زمن القصاصين البدائيين ومَن بعدهم ممن أدخلوا على القصص مؤثرات أخرى فيما عرف بـ”الصييتة”، حتى بداية صناعة السينما وانتشار الأفلام والمسلسلات ذوات القصص الموجه أو القصص التاريخي، وللأسف تجد غالبية المنتجين في هذا المجال إما أهل هوى أو على أقل تقدير أصحاب فهم خاطئ، حتى رأينا إنتاجات تؤصل لأفكار وقيم تتعارض مع صريح الدين وصحيحه، وتروج لأباطيل شرعية وتاريخية حتى وصل الحال لتزوير بعض من التاريخ رأيناه وعاصرناه بل عشناه بأنفسنا، ونحن باقون لا نحرك ساكنا.
(4)
في المقابل نرى مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة وكثيراً من شيوخ السعودية يفتون بحرمة تمثيل الرسل وبعض الصحابة، ثم تجد الواقع يخالف ذلك وتنتشر عشرات المسلسلات التي تجسدهم، واقعاً يراه القاصي والداني.
ولا أبالغ إن قلت: لماذا لا يتبنى الأزهر إنتاجاً درامياً صحيحاً في التاريخ الإسلامي، ولماذا لا تتبنى دولة مثل السعودية إنتاج أعمال سينمائية هادفة وصحيحة تاريخياً ودينياً، بدل الوقوف فقط موقف رد الفعل السلبي.
إن الأمر في نظري يحتاج من علماء السُّنة إلى إعادة اجتهاد لوضع المجتمع السُّني على مسار أفضل مما نحن عليه الآن.
وأنا لا أدعو لنتيجة محددة سلفاً، بإباحة تجسيد الأنبياء أو منعه، إنما أدعو لإعادة النظر من المختصين، غير مهملين الواقع الذي تعيشه الأمة وواقع تطور الميديا والتكنولوجيا، ثم ليخرجوا للناس بعد ذلك بما يقررون، إما بضوابط أو ببدائل أو بوسائل للمنع، أو بشيء آخر.
المصدر: “مصر العربية”.