تمر هذه الأيام الذكرى 36 لتأسيس حركة النهضة التي مرت في هذه العقود المعدودة بمحطات كثيرة مفعمة بالألم والأمل، والانكسار والانتصار، وانتقلت فيها من السرية إلى العلن، ومن المعارضة إلى الحكم.
كانت بداية الإعلان عن نفسها رسمياً في 6 يونيو 1981م في ندوة صحفية برؤية واضحة، وهي عزمها خوض غمار العمل السياسي كحزب وطني ذي مرجعية إسلامية يعمل وفق الآليات المتعارف عليها في النظم السياسية البرلمانية، ومبادئ حقوق الإنسان الدولية، التي تخول للأفراد والجماعات اختيار عقائدهم الدينية ومذاهبهم الفكرية والسياسية دون وصاية من أحد ودون ابتزاز أو تدخل في تحديد المفاهيم المتعلقة بتلك العقائد والمذاهب، وعلى أسس المواطنة التي تجمعها مع غيرها من مكونات المجتمع المدني في البلاد.
الأسس والمبادئ
كان شعار حزب حركة النهضة هو الشعار الذي رفعه ماوتسي تونغ، وهو “دعوا مائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة تتصارع” لكنها عدلت في ذلك الشعار لأن الصراع يقضي على الزهور وعلى المدارس جميعاً وهي النتيجة التي خرجت بها تجربة ماو نفسه وأمثاله، ليصبح الشعار “دعوا مائة زهرة تتفتح ومائة مدرسة تتحاور”، وهو ما ميز مسيرة الحركة وعلاقاتها الداخلية والخارجية منذ تأسيسها وحتى اليوم، ومن أهم ما أعلنت عنه الحركة في ساعة التأسيس:
1- العمل وفق الآليات الديمقراطية واحترام نتائج صناديق الاقتراع، ودعم منظومة حقوق الإنسان.
2- نبذ العنف وتبني الخيار المدني في التعبير عن الرأي والعمل السياسي والفكري.
3- المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.
4- احترام التعددية الفكرية والحزبية والسياسية وعدم وضع “فيتو” على أي فصيل سياسي بما في ذلك الحزب الشيوعي.
انتشار واسع
كانت أرض تونس عطشى بعد سياسة تجفيف الينابيع التي اعتمدها بورقيبة، وكانت حركة الاتجاه الإسلامي بمثابة الغيث النافع؛ حيث لاقى ترحيباً واسعاً، دل عليه انخراط الشباب بكثافة قبل وبعد الإعلان عن الحركة حتى لم يبق إقليم من أقاليم البلاد إلا وكان من بين أبنائه دعاة وأنصار بعد أن كان وجود الإسلام الحي محل شكوك بعد تقلص نسبة التدين وإعمار المساجد إلى حد كبير.
يعود الانتشار الواسع للحركة إلى عدة عوامل أولها: غياب الرؤية الإستراتيجية لدى العلمانيين (اللاييك) عموماً، فالإنسان ماض وحاضر ومستقبل وهو اجتماعي بطبعه وحدود الدنيا لا تفي بحاجة الطبيعة لديه، يبحث عن آفاق محدودة وأخرى لا نهائية، وهذه الحاجة لا يجدها سوى في الإسلام، الشباب لا يبحث عن النجاح والمجد الشخصي بل عن مجد أجداده، وإنجازات واقعه، والمستقبل، وهو ما يوفره له الإسلام الحركي، الشباب يقارن بين وضعه والآخرين، ووضع محيطه والمحيطات الأخرى، ودولته والدول التي يتكلم لغتها ويسكن جغرافيتها وينتمي لتاريخها والإسلام يعده بالأفضل وكان قد بنى مجتمعاً عادلاً مزدهراً ومجداً يعده بتكراره إذا التزم حدوده، لذلك أقبل الشباب على التدين من أجل استعادة المجد الغابر وتحسين وضعه ووضع شعبه وأمته.
وقد منّ الله على تونس بمفكرين ودعاة استطاعوا نقل هذه الرسالة بكفاءة عالية منهم رئيس الحركة الشيخ راشد الغنوشي، ونائبه الشيخ عبدالفتاح مورو، ود. الصادق شورو، وعالم الفيزياء د. منصف بن سالم رحمه الله، وعالم الاقتصاد د. صالح كركر رحمه الله، ومثقفون آخرون مثل حبيب المكني، وفاضل البلدي، وصالح بن عبدالله، وبن عيسى الدمني، وعبدالوهاب الكافي وغيرهم. والتحق بهم لفيف من خريجي الجامعات الذين أصبحوا قادة اليوم.
المحنة
جوبه طلب الحركة من السلطة العمل بشكل قانوني بالتجاهل، ثم كان الرد.. حملات من الاعتقالات والتتبع القضائي بتهمة العمل دون ترخيص، وتكوين جمعية غير مرخص لها، كما لو أنها لم تتقدم بطلب في ذلك أو أن الجمعيات تتقدم بطلب قبل التكوين، وصدرت أحكام وصلت إلى 10 سنوات سجناً بحق أكثر من 70 قيادياً في سنة 1981م في مقدمتهم الشيخان راشد الغنوشي، وعبدالفتاح مورو، وفي أغسطس 1984م تم إطلاق سراح قيادات الحركة، تحت وطأة المشكلات السياسية والاقتصادية المتفاقمة في تونس، ثم ما لبث أن أعيدت القيادات إلى السجن، ففي يوليو 1986م ساءت الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد وتصاعد التوتر بين النظام والحركة واختارت بعض القيادات اللجوء إلى المنفى فيما اعتقل الشيخ راشد الغنوشي وعدد من قيادات الحركة في مارس 1987م، وصدر بحقه حكماً بالسجن مدى الحياة، وقيل: إن بورقيبة طلب من القضاء بعد ذلك بـ10 رؤوس من القيادات أي إعدامهم.
انقلاب عام 1987م
في أجواء التوتر تلك وتحديداً في 7 نوفمبر 1987م نفذ الجنرال بن علي انقلابه على بورقيبة، بدعم خارجي اعترف به الإيطاليون والفرنسيون والإسبان، وكان في حاجة للاستقرار لتوطيد دعائم حكمه، وفي مقدمة ذلك الإفراج عن قيادات الحركة التي سعت لعدم الدخول في صراعات مع المنقلب الجديد بل ومهادنته وكانت من الموقعين على الميثاق الوطني في عام 1989م وغيرت اسم الحركة من الاتجاه الإسلامي إلى النهضة تماشياً مع القانون الذي يمنع قيام أحزاب على أسس دينية، وأيدت الوعود التي قطعها بن علي وهي “لا ظلم بعد اليوم في تونس”، وأن الحريات والديمقراطية ستشمل الجميع، وسمح للحركة بالمشاركة في انتخابات عام 1989م، وحصلت الحركة وفق الرواية الرسمية لوزارة الداخلية المشْرفة على الانتخابات على 13% من الأصوات، بينما تشير تقارير أخرى إلى أن الحركة فازت بتلك الانتخابات.
مثّل فوز الحركة في الانتخابات منعرجاً مهماً في علاقة الانقلابي بالحركة، فضلاً عن التحريض من قبل اليسار، ومتملقي الانقلابي الجديد، وطلب من الشيخ راشد الغنوشي وقف جولاته في البلاد حيث كان عدد الحضور يتزايد من اجتماع إلى آخر، وفي مايو 1991م وعلى غرار أنظمة انقلابية سابقة وبنفس طريقتها أعلن الجنرال الانقلابي أن الحركة تتآمر لقلب نظام الحكم واغتيال بن علي، وعلى إثر ذلك شنت حملات اعتقال طالت القيادة والقاعدة والأنصار والمشتبه بهم، ووصل عدد السجناء إلى أكثر من 30 ألف معتقل.
عاشت الحركة كل ألوان الاضطهاد والقمع الذي تعرض له الدعاة عبر التاريخ، ما فعله فرعون، وما مارسه النمرود، وما ارتكبه الطغاة عبر العصور، من قتل وتعذيب وتجويع واعتداءات بلا حدود.
الثورة والحركة
ساهمت الحركة في الثورة (17 ديسمبر 2010/ 14 يناير 2011م) وبكل مستوياتها، وكانت القوة الأولى في البلاد رغم كل المحن التي تعرضت لها حتى القتل، وقد سماها البعض بطائر الفينيق الذي يقوم من الرماد، وخاضت انتخابات 23 أكتوبر 2011م وفازت بأغلبية نسبية رغم القانون الانتخابي الذي هدف لتشتيت أصوات التونسيين، بين أكثر من 200 حزب، واستطاعت تونس بقيادة الحركة أن تحقق نسبة نمو بـ3.5% رغم كل العراقيل وما عرف في تونس على مدى عامين بسياسات وضع العصا في العجلة لإفشال الترويكا الحاكمة بقيادة النهضة.
تحديات كبرى
كان لتلك العراقيل وتردد الحكومة في اتخاذ القرارات الزاجرة للمتجاوزين دور في انتخابات عام 2014م التي حلت فيها الحركة في المرتبة الثانية (69 مقعداً) بعد نداء تونس الذي حصد 86 مقعداً لم يبق منهم الآن سوى 59 مقعداً، وقد دخلت الحكومة محافظة على بعض مكاسب الثورة وفي مقدمتها ضمان آليات تحقيق مطالب الثورة وتأتي الحريات الأربع في صدارة ذلك، كما أن الأولويات التي رفعت في الثورة وهي العمل والحرية والكرامة الوطنية، من ضمن الحريات الأربع التي وطنت حركة النهضة نفسها على تحقيقها، وأكدت ذلك في مؤتمرها العاشر في مايو 2016م حيث فصلت بين الدعوي والسياسي، كالفصل بين الطب والصيدلة، فصل تخصص لا انفصام.
وتعتقد الحركة أن مسؤوليتها تكبر كلما كبرت التحديات التي تواجهها كحركة أو تلك التي تواجهها البلاد والإقليم ومساعي التدمير والتفتيت والتجزئة التي تستهدف الجميع.