الوسطية خاصية من خصائص الإسلام، ومعلم من معالمه، وميزة راقية من مزاياه القيمة، بها كان الفرد المسلم الذي عرف الفضيلة بكل مناراتها، وبها نشأت الأسرة المحافظة المستقرة، وبها كان المجتمع المسلم الملتزم بقيم الرشاد، واستوعب كل شرائط النهوض المتحضر، وبها كانت الأمة التي أخرجت خير أمة، حيث شهودها الحضاري الذي ملأ جنبات الكون علماً وفضلاً وخيراً ونوراً، في ظلال خاصية وسطية الإسلام ظهرت أجيال المسلمين الأولى، التي تمثل خير القرون، وبقي الخير فيها وسيبقى.
الوسطية من المصطلحات التي كثر الخوض في معناها، ودخل فيها من المعاني الدخيلة، والفلسفات الغريبة، والتصورات البعيدة عن حقيقة ديننا، حيث شرق الناس وغربوا في توصيفها، والخوض في معانيها، خصوصاً أولئك الذين يصطادون في الماء العكر، ويريدون بالأمة الويل والثبور، وهم يعلمون – علم اليقين – أن عزَّنا ومجدنا، وكرامتنا وسؤددنا، يكمن في تمسُّكنا بهذا الدين، فهو الهوية التي تطبع حياتنا بكل معاني الخير والفضيلة، وتضفي على كل شيء فينا معالم النهوض، كيف لا ولب الأمر فيه قائمٌ على طاعة الله تعالى والبحث عن رضوانه؟ فإذا تحقق هذا لا شك ولا ريب سيكون عنوانَ مجد، وسبيل كرامة، وطريق حرية، ومنارة سؤدد.
وأعداء الأمة لا يريدون لها التمكين والنصر؛ لذا يعملون على إبعاد هذه الأمة عن هذا المنهج بكل ما أُوتوا من قوة؛ لأنه سبيل من سبل بقاء مصالحهم، واستمرار سيطرتهم على هذه الأمة.
ومن الأساليب التي يعتمدونها من أجل تحقيق هذا الغرض محاولةُ تشويه المفاهيم الإسلامية؛ حتى يحرفوا العربة عن مسارها الصحيح، وإن كان باسم الإسلام، وتحرير فهمه على الأصول التي ينبغي أن يفهم على ضوئها، هكذا زعموا، ولكن هيهات.
فهذا الدين باق، وأمة الإسلام – التي قد تمرض وقد تضعف – لا تموت، وباتت كلمة «المستقبل للإسلام»، و»المستقبل للأمة» من ثوابت الرؤية الحضارية الاجتماعية، فدوام الحال من المحال، والغد البسام قادم ينير دروب الرجاء في هذه الحياة.
الوسطية منهاج أصيل
وحصل أن اختلف علماؤنا الأفاضل، ومفكرونا الأكابر، في تحديد معنى الوسطية، وكان هذا سبيلاً من سبل الولوج إلى التحريف في المعنى من قِبَل أولئك المتربصين، الذين يريدون بالأمة الويل، والذين اعتادوا على لَيّ أعناق النصوص، وقراءتها بطريقة ظاهرُها فيه الثقافة والمعرفة، وباطنُها الويل والثبور.
ذلك أن هناك تياراً يريد أن يجعل مسألة “القراءة الثانية للنص” سبيلاً للهوى والتشهي، وطريقاً للطعن والتشوية والتحريف.
وزاد الطين بِلّة أن دخل على الخط الغلاة (المتطرفون) الذين أعطوا صورة عن المسألة، ملؤها الانغلاق والسوداوية، حيث التكفير غير المنضبط، والتفسيق بلا مبرر شرعي، والتبديع بلا دليل، والانكفاء على الذات من خلال مطويات لا تحمل معاني النشر، ومنشورات ليست قابلة للبقاء، فبرزت بمعنى شائه ومنفّر، لا يمت إلى الفهم الصحيح بصلة، ولا يعبر عن حقيقة المفاهيم الإسلامية، خالية من الشوائب التي علقت بها، من هنا أو هناك لسبب أو آخر، وبعضها مصنّع ومقصود، يهدف إلى صناعة هذه الصورة الذهنية المسيئة، وهذا ما جعل الأمر أكثر تعقيداً؛ حيث صار الصنف الأول يتخذهم مستنداً لكل ما يريد نقضه، ويعمل على حربه، في عالم العقائد والتصورات والسلوك.
فهناك من يفهم الوسطية على أنها التحلل من تكاليف الشريعة، والتنصل من أحكامها، والتمرد على قيمها؛ ومن ثَم التفلت منها.
ولا يريدون من الوسطية إلا هذا، وأي التزام صادق بالإسلام إنما هو “غلو وتطرف”، فمن قال: “آمنت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً”؛ فليس وسطياً، وإن ظهر منه أي لون من ألوان التميز الإسلامي المتوازن التعايشي المندمج مع المجتمع وشُعب الحياة، قالوا عنه: إرهابي، وإن صلَّى الصلوات على وقتها فهذا من المتشددين، وإن ترك مائدة تدار عليها الخمر فهو من العصر الحجري، وإن كان ديدنه تحليلَ ما أحل الله وتحريم ما حرم فهذا لا يعيش عصره، ولا يفهم معنى التطور والحداثة، وإن رأوه متمسكاً بالسُّنة نبزوه بالألقاب الفظَّة الغليظة، أما إذا دعا إلى الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة فيا غارة الدين، ويا مصيبة الحياة!
فالويل كل الويل لمن كان ينطلق في رؤيته الفكرية من مرجعية إسلامية، فمن كان كذلك فهو ماضوي، وإن كان مشروعه السياسي متوافقاً مع مبادئ الإسلام فيوصَم بالأصولية، ويوصون بإقصائه، ومن ثَم فهو رجس من عمل “الإمبريالية!”، لا بد من القضاء عليه، والحذر منه، والعمل على توقيفه عند حده.
والمرأة إن تمسكت بدينها فتحجَّبت فهي متخلفة لا تستحق الحقوق، ولا يجوز أن تشارك في شُعب الحياة السياسية، والاجتماعية، والوظيفية التي تليق بها من كل الجوانب، ضمن الضوابط والقيود والحدود والأطر والمحددات الشرعية.
أما إذا لم تشارك في الحفلات الماجنة، والليالي الحمراء، والتجمعات الراقصة التي لا تُبقِي ولا تَذَر فهي معقدة، وتُشَن عليها الحملات، وتطلق بحقها الشائعات، وتحاك لها المؤامرات، ويا ويلها إن لم تَلِن وتخضع وتستسلم؛ لأنها ستلاقي – بعد ذلك – من العنت والضيق ما لا تحمد عقباه.. وهكذا، والتفصيل في هذا يطول.
وبالمختصر، قال قائلهم: الديمقراطية – وهو من عشاقها – التي تأتي بالإسلاميين لا أعرفها، وثورة تخرج من المساجد لا أصدق بها، وبرلمان يأتي بمحجبة لا أعترف به، وحكومة تُدخل فيها ملتحياً بالتأكيد أرفضها.. وهكذا.
الجنوح في تفسير الوسطية
وإن سألت أصحاب هذا الخلط: من هو الوسطي عندكم؟ لكان الجواب الواضح الصارخ:
الوسطي هو الذي يتمسك بقيم المعاصرة المجردة من الالتزام المسبق، ومفاهيم الفلسفة الحديثة التي لا ترتبط بالماضي، وترك الانغلاق، والانفتاح على التطور العقدي، والتعايش مع الحياة بكل ما فيها من لذة ومتعة وشهوة، والتفاعل مع مستجدات الحياة وتطوراتها، بكل ما تحمل من معاني الشهود، دون الرجوع إلى مصادر أخرى.
الوسطي ذلك الذي لا يتقيد بمنهج قديم، مهما كانت قدسية هذا المنهج، فيصبح قطعة من الماضي، ولا يدرك قيمة الحاضر.
الوسطي هو ذلك الذي ينظر إلى الدين نظرة احترام وتقدير، كما أنه يعترف بالقيم التاريخية لأي أمة من الأمم، دون أن يتعدى هذا الأمر هذه الصورة إلى غيرها من سبل العمل والتطبيق، فليس للماضي والقديم إلا الإكبار والاعتزاز، الذي يدفع نحو منظومة فكر جديدة، وصياغة سلوك حضاري يستمد حضوره من حضارات الآخرين، في عالم الإرث الإنساني العام الذي يؤدي إلى تشكيلة ثقافية، يعتقدها الناس كلهم.
الوسطي ذلك الذي لا يجمد على المألوف، ويتعامل مع النصوص بروحية القراءة الثانية، بعيداً عن قوالب القدامى وقواعدهم وقوانينهم، وضوابط الرواية والدراية، فإن هذه من المقعدات المحبطات، التي “تحجم” الباحث والمفكر، وتقتل روح الإبداع؛ لذا فالتحرر من هذه القوالب يدفع نحو فضاءات رحبة، تعطيك الفرصة لتجديد الفكر، والأخذ بأفكار الآخرين، والتعامل مع مناهجهم بلغة الانفتاح، بعيداً عن التعصب، أو حصر الحق عندك؛ ففي جعبة الأمم الأخرى، والحضارات المتعددة ما هو أحسن مما عندك، ويرفضون مقولة التمسك بالثوابت، والانفتاح على الآخرين بلغة “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها”.
الوسطي هو ذلك الذي يعيش عصره بكل أبعاده، دون الانحياز إلى عقيدة مسبقة، أو فكرة بعينها، أو تمسك بقيمة تربى عليها، فكل شيء عنده قابل للأخذ والرد.
يقول الأستاذ فريد عبدالقادر في كتابه “الوسطية”: “وقد شاع كذلك عند كثير من الناس استعمال هذا الاصطلاح الرباني، استعمالاً فضفاضاً يلبس أي وضع أو عرف أو مسلك أرادوه، حتى أصبحت الوسطية في مفهومهم تعني التساهل والتنازل”.
الوسطية في الإسلام يمكن تعريفها بمقدمة ونتيجة:
أما المقدمة:
فقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
قال العلماء: أي عدلاً خياراً.
فالوسطية تعني: العدل والخيرية في منهج الإسلام الحضاري الذي يقوم على التوازن، فهي خاصية الإسلام بالعدل؛ عدل على مستوى الفرد، والأسرة، والمجتمع، والدولة، والأمة، والإنسانية؛ إذ كل امرئ إذا ما انتظم في دين الله، والتزم بكتابه وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم كان متوازناً عدلاً، بعيداً عن الإفراط والتفريط، والغلو والتطرف، ينهج نهج التيسير والبشرى، والتبشير لا التنفير، والتسهيل لا التشديد، ويمضي على طريق العمل الصالح، والصراط المستقيم، وهذا التعريف بالنتيجة.
قال العلامة السعدي في تفسيره: «أي: عدلاً خياراً، وما عدا الوسط، فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين».
فالوسطية التزام بدين الله، من خلال فهم سليم وصحيح، ينتج كل خير وسؤدد وتوازن، وهي حالة حضارية قوامها الربانية وطاعة الله تعالى.
فالوسطية تمسك بالنص، بفهم سليم له.
وسطية حضارية، لا تؤمن بالعدوان ولا تريده، بل تخاصمه وتعاديه، لا تريد العدوان على النفس، ولا الأهل، ولا الجار، ولا الحاكم، ولا المحكوم، ولا المسلم، ولا غير المسلم، ولا البيئة، ولا الحيوان.. إلخ.
تعيش الواقع، وتلاحظ التطور، وتتفاعل مع المستجد، من خلال الأصول والثوابت، والذي لا يفقه واقعه لا يستحق أن يكون من صناع الحياة، ولا يمكن له أن يكون من مدرسة التجديد، ولا يوصف بصفة العلم؛ لأنه فقَدَ شرطاً من شروطه الأساسية.
وسطية تؤمن بإعطاء كل ذي حق حقَّه، وتشيع روح الأمن والأمان، والطمأنينة والاستقرار، والحرية والعدل، وقيم الحسن والجمال، بفقه مقاصدي راقٍ، ورقي يقدر حالات وأوضاع النواتج والمآلات، ويجيد ترتيب الأولويات، ويترك باب الاجتهاد مفتوحاً بضوابطه وأصوله لأهله، والمستكملين لشرائطه، والمالكين لأدواته، ولا يجعل الاجتهاد لمن هبّ ودبّ؛ حتى تتوازن الأمور، وينضبط السير، وينتفي الاضطراب.
وفي ختام هذه العجالة، يسأل بعض الشباب: هل هناك إسلام وسطي، وإسلام غير وسطي؟
الحقيقة الإسلام هو الإسلام، ولا أحب تجزئة معانيه بوصفه، حتى لا يظهر بمظهر وكأن الإسلام متعدد، فالإسلام واحد وله خصائص متعددة، فنقول: وسطية الإسلام، وأفضل ألا نقول: الإسلام الوسطي.