كيف يمكن إدارة فترة الاغتراب عن الرجل دون مخاطر والزوجة تتحمل كل مسؤوليات الرعاية والتربية؟
لن يستطيع أي من الزوجين أن يفي بأمانة التربية ومتطلباتها إلا إذا أشبع حاجاته الزوجية
من مخاطر الاغتراب تعوُّد رب الأسرة على الحياه بدونهم وتعوُّدهم على تسيير أمورهم بمنأى عنه
السلام عليكم، تحية تقدير لمجلة «المجتمع»، فهي أحد أبواب الشروق الإسلامي في المهجر.
أستاذي الفاضل د. يحيى..
قد تبدو مشكلتي خاصة بالأسر المسلمة في المهجر، إلا أنها متكررة بشكل ما في المنطقة العربية، حتى وإن كانت فيها خصوصية، فمن حقنا وسط موجات الهجرة من المنطقة العربية لما حلَّ بها من دمار إنساني وبنيوي أن يكون لنا قسط من بابكم المنير.
نحن أسرة عربية هاجرنا إلى كندا من سنتين، ولكن نظراً لضعف فرص العمل للمهاجرين العرب بصفة عامة، فإن بعض الأزواج يفضلون استمرار العمل بالخليج لتكوين مدخرات لتغطية نفقات الأسر عند استقرارهم إلى أن يجدوا عملاً مناسباً، ورغم أن تقدير فترة تكوين المدخرات تكون عادة من سنة إلى سنتين فإن تكلفة الحياة وزيادة متطلبات الأسرة والخوف من عدم الحصول على فرصة العمل المناسبة، يجعل الفترة قد تمتد لأجل غير محدد؛ يترتب على هذا الوضع غير الطبيعي لانقسام الأسرة مشكلات عدة.. تساؤلاتي لحضرتك: ما أقصى فترة يمكن للأسرة أن تكون بهذا الانقسام، مع أولاد ما بين المراهقة والطفولة، ونحن بكندا بكل ما تحمله من تحديات؟
سؤالي الآخر: كيف يمكن إدارة هذه الفترة دون مخاطر، والزوجة تتحمل كل مسؤوليات الرعاية والتربية والدراسة والنشاطات، وعليها أن تقدم تقريراً يومياً للزوج، وعليها أن تتلقى أوامره وتنبيهاته وتقييمه لأدائها وملاحظاته على درجة الأولاد وكأنها هي التي امتحنت؟! وهو ماذا يفعل؟ ماذا يقوم به من أعباء غير مجرد مكالمة لزوجة مطحونة وعليها أن تقدر خوفه على الأسرة وتتعامل معه بكل رقة وحنان، وكأنها جالسة طول النهار على الأرائك ليس لديها غير انتظار مهاتفته لتبث له أشواقها، دون الإشارة إلى أي شكوى أو معاناة؟ طبعاً هذا الوضع كثيراً ما يؤدي إلى صدامات، ثم ماذا بعد؟
زوجة مقهورة.
الحل:
يمكن النظر إلى تساؤلات ابنتنا من المحاور التالية:
الأسرة كمنظومة إسلامية: الأصل هو عيش الزوجين معاً، حتى يتمكنا من بناء ورعاية المحضن التربوي للأبناء، وبما يوفره ذلك المحضن من التربية الوجدانية والروحية والبدنية والعقلية، ويصعب بل يستحيل على أحد الزوجين أن يتمكن من ذلك بمفرده مهما حاول الآخر بكل ما يستطيع من دعم من بُعد، خاصة فيما يتعلق بالتربية الوجدانية، وهي أساس باقي أنواع التربية، لن يستطيع أي من الزوجين أن يفي بأمانة التربية ومتطلباتها إلا إذا أشبع حاجاته الزوجية وثمرتها الأمان والاستقرار الزوجي؛ فتعم البيت المودة والرحمة، وينشأ الأبناء في بيئة وجدانية تشبعهم حناناً وحباً؛ فتنساب منظومة القيم من عقائد وأخلاق عبر قنوات التلقي التي تفتحت تلقائياً من خلال مصاحبة الأبناء وتغذيتهم بكلمات التشجيع ونظرات التقدير ولمسات الحنان والأحضان التي تبث فيهم قيمتهم لدينا وتشعرهم بأهميتهم؛ فتنطلق مواهبهم وطاقاتهم للنهل من مصادر المعرفة مما نمدهم به منها التي تشكل اللبنات الأساسية في بناء شخصيتهم ثم ينطلقوا عبر خطواتهم الأولى لاستكمال ذلك خارج الأسرة، طبعاً لن يتحقق ذلك إلا بالتئام شمل الأسرة، ولا أقصد بالتواجد الجسدي فقط، ولكن التواجد الشمولي مادياً ومعنوياً.
أؤكد أن هذا هو الأصل وأساس حياة الأسرة، وأي شكل آخر يجب أن يكون استثناء وطبقاً لمقتضيات الضرورة، وتقدر الضرورة بقدرها، أما أن يكون تبرير الانفصال الأسري لمجرد التطلع لرفع مستوى المعيشة فقد وعد الله (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22}) (الذاريات).
سأذكر فقط بعض الآثار السلبية على الزوج لبُعده عن أسرته:
ضعف علاقاته بكل أفراد أسرته وعدم إلمامه بمشكلاتهم وتطوراتهم النفسية؛ مما يضعف ارتباطهم به؛ وبالتالي تأثيره عليهم.
تعوّده على الحياة بدونهم، وكذلك تعوّد الأسرة على أن تسيّر أمورها بمنأى عنه، حتى إذا عاد شعر بغربته بينهم وصعوبة التأقلم وشعر أفراد الأسرة بضيف يتدخل في شؤونهم.
بطول الفترة يتقلص دوره التربوي حتى يكاد يقتصر على الإنفاق.
بالإضافة إلى أن طول فترة البُعد سيؤدي إلى ضعف علاقته بزوجه على كافة الأصعدة، وأود أن أشير إلى خطورة تأثر الرجل ببعده عن زوجه، فإن عدم الانتظام في العلاقة الخاصة له تأثير سلبي على صحة الرجل الجنسية، خاصة إذا ما كان الزوجان يتبادلان حديث الشوق – وهذا طبيعي بل ويجب – فإن استمرار استثارة الزوج دون لقاء يؤدي إلى مشكلات صحية تؤثر على مدى كفاءته الجنسية، كما أن عدم التواد العاطفي يؤدي إلى جفاء وبرود مشاعرهما.
التواصل من خلال الإنترنت:
قد يدعي البعض أن ما يوفره الإنترنت من تلاقٍ مباشر بالصورة والصوت يمكنه من المتابعة الآنية لبيته وأدائه لمسؤولياته تجاهها، رغم قيمة وأهمية بل وحتمية التواصل الإلكتروني فإنه يؤدي دوره في غياب رب الأسرة أسبوعاً مثلاً، أما وأن يستمر شهوراً، فمن المؤكد – رغم أهميته بل وحتميته – أن التواصل الطبيعي هو الأساس لنجاح تربية الأبناء.
إن بُعد الأب عن الأبناء شهوراً يُفقدهم توازنهم النفسي ويخلخل معنى الأبوة بل والأسرة لديهم، فهم يحتاجون إلى دفء حضن الأب ولمسة حنانه، ونظرة امتنان إن أحسنوا، ونظرة عتاب إن أساؤوا، يحتاجون لقراراته الحازمة الآنية عند تعثرهم، وصوته الصارم عندما يتعدون حدود الأدب، يحتاجون لأب.
رغم قيمة وأهمية التربية عن بُعد فإن التفاعل الجسدي بما يبثه الأب من لغة جسدية وإشعاع وجداني يظل العامل المؤثر والفعال في تربية الأبناء، إن التربية الوجدانية التي تتم من خلال المعايشة اللصيقة بين الأب والأبناء هي التي تمكّنه من التربية الروحية والعقلية والجسدية، التي لا يمكن له مهما قال عن بُعد كلمات أن تؤتي ثمارها، طبعاً لا أقلل من أثر التواصل الإلكتروني وقيمته، ولكن أن يعتقد الأب أنه بذلك يؤدي القوامة التي كلفه الله بها وأنه قد أدى الأمانة التي سيسأله الله عنها، من المؤكد لا.
تبرير الأزواج:
مع كل تقديري لمسؤولية رب الأسرة في توفير متطلباتها المادية، وأهمية التخطيط وتوفير المدخرات التي تمكنه من ذلك، لكن السؤال المهم: ما الحد الذي يكتفي به، الذي يجعله يشعر بالأمان؟ يقول سبحانه جل شأنه محذراً عباده المؤمنين: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {268}) (البقرة)، عن زيد قال: «كنَّا نقرَأُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لو أنَّ لابنِ آدَمَ وادِيَينِ، وفي لفظٍ: لو كان لابنِ آدمَ واديانِ مِن ذهَبٍ وفِضَّةٍ، وفي لفظٍ: أو في فضَّةٍ، لابتغى إليه آخَرَ، ولا يملأُ بطنَ ابنِ آدمَ إلَّا التُّرابُ، ويتوبُ الله على من تاب»؛ لذا يجب الموازنة وفقه الأولويات يقتضي التعرف على ما يلي:
وعدنا الله بالرزق وتكفل به، وكلفنا برعاية الأبناء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم: 6)، «كفى بالمرءِ إثماً أن يضيّعَ من يقوتُ»، ففقه الأولويات يقتضي أن يكون الهدف هو تربية الأولاد، ولا يكون الهدف جمع المال الذي يكفي لمعيشة الأولاد، فاليقين بأن الله هو الرزاق، يجعلنا نكتفي بالحد الأدنى ثم مع السعي والدعاء وحسن الظن بالكريم جل شأنه يجعلنا نتوكل على الله حق توكله؛ «لو أنكم تتوكلونَ على اللهِ حقَّ توكلِهِ لرزقكم كما يرزقُ الطيرُ تغدو خِمَاصاً وتروحُ بِطَاناً».
كيف يدير الزوجان محنة البُعد إلى أن يشاء الله ويلتم شمل الأسرة؟
أن تحاول الزوجة ترشيد نفقات معيشتها والأولاد حتى تقل فترة غربة زوجها.
أن تتحمل مسؤولياتها، وتكون حذرة ومتيقظة، وأن تشرك زوجها في كل – وأؤكد كل – أمر الأسرة، وإذا ما توقعت – أعوذ بالله – خطراً عليها أن تخطر زوجها؛ إما حضوره أو سفر الأسرة إليه.
أن يثمّن كل منهما جهود الآخر، ويعينه على أداء مهمته.
التواصل.. التواصل.. ثم التواصل مع كل أفراد الأسرة، وأن يكون رب الأسرة متواجداً افتراضياً على مدار الساعة كلما أمكنه ذلك، فعليه أن يرتب برنامجه بما يتوافق مع برنامج الأولاد، والموازنة بين الدعم الوجداني والتوجيه، حتى لا يمل الأولاد لقاءه وتصبح الصورة الذهنية عن الوالد إعادة وتكرار مجموعة الأوامر والنصائح واللوم؛ فينفر الأبناء.