يشبّه البعض سلوك حركة “حماس” وتنازلها لحركة “فتح” بانسحابها كلية من الحكومة وتسليمها غزة للسلطة في رام الله، بسلوك حركة النهضة التونسية التي آثرت الانسحاب من الحكومة بهدف تفويت الفرصة على المتربصين بالتجربة الديموقراطية التونسية، ولحماية نفسها من الاتهام بالفشل الذي يمكن أن يؤدي إلى استهدافها سياسيا، عبر التشويه والتهميش والإقصاء عن المشهد الوطني.
استحضار تجربة النهضة لإسقاطها على سلوك حركة “حماس”، تحت شعار البراجماتية والدهاء السياسي القادر على خلق فرص التعايش مع الخصوم، دون التنازل عن الثوابت الوطنية، هو محاولة ومقارنة سطحية بقفزها إلى النتائج والشكل دون النظر إلى المعطيات والحيثيات؛ فالتجربتان مختلفتان لأكثر من سبب، ومنها:
أولا: تونس دولة مستقرة وذات سيادة، وتتمتع بموروث سياسي ودستوري، أما غزة والضفة أو فلسطين فهي خاضعة للاحتلال ولقوانينه العسكرية التي تؤثّر وتتدخل في مجريات الحياة كافة؛ سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وليس أدل على ذلك من حصارها لغزة، وقتلها الرئيس ياسر عرفات، وإفشالها كل محاولات المصالحة الوطنية السابقة.
ثانياً: تونس دولة سلمية الطابع، وأحزابها علمانية كانت أم إسلامية احتكمت واحترمت صناديق الاقتراع، على عكس التجربة الفلسطينية عام 2006 التي أدت إلى الانقسام الراهن، ورغم ذلك فإن انسحاب النهضة من السلطة يعود لأسباب ذاتية أولاً، تتعلق بضعف تجربتها السياسية في الحكم، وهي الحركة الخارجة للتو من السجون والعائدة من المنافي، ناهيك عن مشكلاتها التنظيمية الداخلية، وحاجتها لإعادة نَظْم صفوفها وفقاً للمستجدات الوطنية والاجتماعية، ويضاف إلى ذلك عوامل موضوعية أخرى تمثّلت في ضعف الاقتصاد الوطني بعد الثورة، ومحاولة بعض الأطراف تشويه النهضة واتهامها بالفشل.
ثالثاً: موقع تونس الجغرافي البعيد عن فلسطين أو الكيان الصهيوني، وهامشية دورها الإقليمي، يسمح لها بهامش معقول من الحرية والعمل السياسي؛ فاستقرارها لا يُشكل تهديداً لسياسات الولايات المتحدة أو الحركة الصهيونية عموماً، وعلى النقيض من ذلك فقد شاهدنا ما حصل في مصر (الجغرافيا والدور) من انقلابٍ على الشرعية وسحق لقوى المعارضة الليبرالية والإسلامية، الأمر الذي ينسحب بدوره على حركة “حماس” المؤمنة بحتمية زوال دولة “إسرائيل”.
أما الحديث عن إمكانية اقتفاء حركة “حماس” لخطى “حزب الله” في إدارة علاقته مع القوى السياسية اللبنانية سلماً، في الوقت الذي يحافظ فيه على سلاحه في مواجهة الاحتلال الصهيوني، فهذا أمر فيه نظر ويحتاج للوقوف على أسباب نجاح تلك التجربة، مع ضرورة استبعاد فرضية المطابقة، ومع ذلك فلا بد من التنبيه لعوامل الاختلاف بين الحالة الفلسطينية واللبنانية؛ فـ”حزب الله” يعمل انطلاقاً من بلده لبنان المستقل، وحتى عندما كان الجنوب محتلاً فالحزب كان له ظهير جغرافي من صور جنوباً حتى طرابلس شمالاً، هذا بالإضافة إلى الخصوصية اللبنانية الطائفية التي تحمي المقاومة، وتوفر لها الغطاء الرسمي عبر البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة، وهو الأمر المُنعدم لدى سلطة أوسلو، بل إن الرئيس عباس كان وما زال يجاهر بتجريم ورفض خيار المقاومة، ويلاحق المقاومين بالتنسيق مع الاحتلال “الإسرائيلي”.
المسألة الأخرى وهي الأهم، أن “حزب الله”، علاوة على حاضنته الطائفية، فهو يلقى دعماً سياسياً وعسكرياً ومالياً كبيراً من إيران، إضافة إلى ميزة الجغرافيا السياسية السورية الحاضنة للبنان والحامية للمقاومة، على عكس حركة “حماس” التي تعاني من الحصار الشامل، ومن دكتاتورية الجغرافيا المصرية والأردنية.
يمكن لـ”حماس” أن تستفيد من تجربة حركة النهضة بتكتيكاتها السياسية المرنة مع شركائها وخصومها السياسيين، ولكنها مضطرة بحكم التجربة الفلسطينية واللبنانية إلى حماية نفسها والقضية الفلسطينية بامتلاكها معالم القوة، وفي مقدمتها السلاح الموجّه للاحتلال الذي بدوره لم ولن يقبل أن تكون “حماس” شريكاً سياسياً، لا في سلطة أوسلو ولا في منظمة التحرير الفلسطينية، إلا إذا تخلّت عن سلاحها واعترفت بـ”إسرائيل”، وكل تعويل على عزل سلطة أوسلو عن مسار المفاوضات فهو محكوم بالفشل مسبقاً؛ لأن برنامج السلطة الفلسطينية قائم عملياً وبموجب اتفاقيات أوسلو على الشراكة والسلام مع الكيان “الإسرائيلي”.
المصدر: “عربي 21”.