كانت القوة هي المحدد الذي يتم على أساسه الحصول على الأراضي الزراعية أيام الجاهلية قبل البعثة النبوية، شأنها في ذلك شأن باقي الثروة التي يتم اقتسامها على أساس السلطة.
يقول الإمام الشافعي:”كان الرجل العزيز من العرب إذا انتجع بلدا مخصبا، أوفى بكلب على جبل إن كان به، أو نشز إن لم يكن جبل، ثم استعواه ووقف له من يسمع منتهى صوته بالعواء، فحيث بلغ صوته حماه من كل ناحية، فيرعى مع العامة فيما سواه، ويمنع هذا من غيره لضعفاء سائمته، وما أراد قرنه معها فيرعى معها”
وقد أدى هذا إلى تركز الأراضي الزراعية بمساحاتها الشاسعة في أيدي قلة من الناس، وحرمان الكثرة الكاثرة من التملك، ولم يبق لهم إلا العمل أجراء عند أصحاب هذه الأراضي، وحسب قانون العرض والطلب، كانت أجرة العمال مبالغ زهيدة لكثرة العمال ووفرتهم.
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوضع الاجتماعي الجائر، فكيف كانت استراتيجيته صلى الله عليه وسلم لتصحيح هذا الوضع الظالم؟
تتجلى هذه الاستراتيجية في ضوء النصوص النبوية التالية:
- عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا”.
- عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة”.
- عن رافع بن خديج – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: “من كانت له أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلث ولا بربع، ولا بطعام مسمى”.
- عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، ولا يؤاجرها إياه، ولا يكريها، فإن أبى فليمسك أرضه”.
- عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ««من أحيا أرضا ميتة فهي له”.
- عن ابن عباس: أن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حمى إلا لله ورسوله”.
معالم الإستراتيجية
ونستطيع أن نستجلي معالم هذه الاستراتيجية من هذه الأحاديث على النحو التالي:
أولا: أوقف النبي صلى الله عليه وسلم استمرار الحِمَى الجاهلي كما في السادس.
وبمنع الحمى يتوقف انسياب الثروة الطبيعية إلى أهل الجاه والقوة والسلطة، وتُحفظ للأمة مواردها الزراعية.
ثانيا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاشتغال بالزراعة والاستكثار منها كما في الحديث الأول : ” لا تتخذوا الضيعة ” والضيعة : “هي البستان والقرية والمزرعة.” ”
و كما في حديث أبي أمامة الباهلي – رضي الله عنه – قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ورأى سكة أو شيئا من آلة الحرث – يقول: «لا يدخل هذه بيت قوم إلا أدخله الله الذل”
قال القرطبي : ” هذا محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال”.
وعلى ذلك فالمخاطبون بهذا الحديث هم أصحاب الأراضي الشاسعة، نهوا أن ينشغلوا بالزراعة وعن الاستكثار منها ، كتهيئة لسن تشريعات جديدة في هذا الصدد.
ثالثا : بالتأمل في الحديث الثاني: ( كان له بها صدقة) نجد أنه يشجع على الزراعة والغرس، فالأجر والصدقة يستمر إلى يوم القيامة، ما دام الغرس أو الزرع مأكولا منه، ولو مات زارعه أو غارسه ولو انتقل ملكه إلى غيره، وفي هذا تشجيع لأصحاب الأراضي الشاسعة أن يمنحوا الفائض منها لغيرهم.
وبهذا المنطق التشريعي تتوزع الأراضي الزراعية على الزارعين الأكفاء، ومنطقه العقلي : أن مالك الأرض الشاسعة سيحتفظ بالأرض التي يستطيع زراعتها فقط.
رابعًا : باستحضار الأحاديث التي نهت عن إيجار الأرض الزراعية كما في الحديثين ( الثالث والرابع) يصبح مالك الأرض أمام خيار واحد، وهو منح الأرض أخاه، فالأرض التي تزيد عن قدرته سوف تتعطل بين يديه، ومنحها لمن هو أهل لزراعتها يعني تقسيم الأراضي على مزارعين أكفاء.
خامسًا : ويستدل على النتيجة السابقة بالأدلة العقلية المستندة إلى الأدلة النقلية، التي يستعان بها لإدراك حكمة النهي عن المؤاجرة، فمنع مالك الأرض من مؤاجرة أرضه، تفوت عليه العوائد المضمونة التي يحصل عليها دون أن ينشغل بأرضه وزرعه، كما أن في مؤاجرة الأرض مخرجًا من أن يشمل مالكها التهديد بالذل.
وعلى هذا، فإن لمالك الأرض أن يتخير مما يلي :
- أن يزرع الأرض بنفسه، وهذا لا يتحقق إلا إذا كانت مساحة الأرض التي يملكها محدودة، وبذلك يتخلص الاقتصاد من مشكلة الملكية الغائبة.
- أن يزرع ما يستطيعه من الأرض، ويمنح ما يعجز عنه للآخرين، فإن كانت أرضه شاسعة، فسوف ينال من تلك الأرض عدد كبير من المزارعين، وبذلك تتوزع الأرض على عدد كبير من المزارعين.
- أن يمسك أرضه بشرط ألا يكريها، وفي هذه الحالة ، فإنه خوفا من تعطل الأرض ، تصبح أمامه الخيارات التالية :
– أن يبيعها لمن يستطيع زراعتها، فتتوزع الأراضي بشكل أرحب، وهذا هو المطلوب.تقوية موقف العمال
– أن يستأجر عمالا لأجل زراعتها، إلا أن حديث ( من أحيا أرضا ميتة فهي له) يشجع المزارعين على إحياء أرض ميتة فتكون لهم، وبديهيًّا أن يفضل المزارع الاختصاص بأرض يزرعها على أن يعمل بالأجرة في أرض غيره، ويفضل الإحياء كذلك على أن يستأجر أرضا ويدفع أجرة لصاحبها .
وهذا بدوره يقلل عدد العمالة الزراعية في مقابل طلبها من جهة أصحاب الأراضي، وهذا يقوي المركز التفاوضي للعامل المزارع، الأمر الذي يؤدي إلى رفع أجرة العامل الزراعي في حالة عمله أجيرا عند صاحب الأرض. كما يمكنه من رفع حصته في الربح إذا كان سيعمل شريكًا مع صاحب الأرض.
- توزع الأراضي بشكل أوسع على الزارعين الأكفاء، وهذا غاية الترشيد ومقصده.
- وبهذا يتجلى منطق التشريع الإسلامي في ( تصفية الحِمى) أي إعادة توزيع الأرض الزراعية، بما يحقق العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية في آن واحد؛ إذ إن الأراضي الشاسعة التي يغيب عنها ملاكها، والأراضي المعطلة، قد توزعت على عدد كبير من المزارعين الأكفاء.
——
* المصدر: إسلام أون لاين.