ما زلنا نستكمل السلسلة التي بدأناها عن اليهود وكيف عاشوا في ظل الإسلام، آخذين كل كلامنا من مستشرقين ومؤرخين غربيين فحسب، وكنا تحدثنا في المقال الأول عن عموم أحوال اليهود في ظل الإسلام مقارنة بالأمم الأخرى، وفي المقال الثاني عن أحوالهم في ظل دولة النبي ودولة الخلافة الراشدة، ونواصل في مقالنا هذا الثالث حديثنا عنهم في ظل العصر الأموي والعباسي.
اليهود في ظل العصر الأموي:
يؤكد «ج. هـ. جانسن» فضل فتح المسلمين للأندلس، وهو الفتح الأموي، على حفظ حياة اليهود، يقول: «في مناسبتَيْن من التاريخ اليهودي في أوروبا نرى أن بقاء اليهود على قيد الحياة يعود إلى استضافة وحماية الحكام المسلمين؛ كانت الفترة الأولى في القرن السادس عندما وضعت الفتوحات الإسلامية في إسبانيا حداً للاضطهاد اليهودي على يد المسيحيين هناك، ومنذ القرن العاشر فصاعداً أخذ الضغط على اليهود في أوروبا الغربية في الازدياد ببطء، حتى إذا ما أطل القرن السادس عشر كانت تلك المنطقة قد أُفرغت من اليهود ما عدا بعض الجيوب الصغيرة والمبعثرة، لقد انتقلت الجاليات اليهودية نحو الشرق ووجدت ملجأ لها في الإمبراطورية العثمانية».
ويقول مؤرخ الحضارة «ول ديورانت» في موجزه عن تاريخ العصر الأموي: «كان أهل الذمة المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون، يتمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نظير لها في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائرهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، ولم يفرض عليهم أكثر من ارتداء زي ذي لون خاص وأداء فرضة عن كل شخص، تختلف باختلاف دخله وتتراوح بين دينار وأربعة دنانير (من 4.75 إلى 19 دولاراً أمريكياً).
ولم تكن هذه الضريبة تفرض إلا على غير المسلمين القادرين على حمل السلاح، ويعفى منها الرهبان والنساء والذكور الذين هم دون سن البلوغ، والأرقاء، والشيوخ، والعجزة، والعمى الشديد والفقر، وكان الذميون يعفون في نظير هذه الضريبة من الخدمة العسكرية أو إن شئت فقل لا يقبلون فيها -ولا تفرض عليهم الزكاة البالغ قدرها 2.5% من الدخل السنوي، وكان لهم على الحكومة أن تحميهم، ولم تكن تُقبل شهادتهم في المحاكم الإسلامية، ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لزعمائهم وقضاتهم وقوانينهم».
اليهود في ظل العصر العباسي:
ينقل «آدم ميتز» عن رحالة يهودي أحوال اليهود في العصر العباسي، فيذكر كثرة عددهم، يقول: «يُقَدّر ربّي بنيامين (وهو رحالة سافر عام 1165م) اليهود في المملكة الإسلامية –بعد صرف النظر عن المغرب- بنحو ثلاثمائة ألف يهودي، على حين أن ربّي بتاحيا –وقد سافر بعد صاحبه بعشرين عاماً- يقدر أن عدد اليهود في العراق وحده يبلغ ستمائة ألف، ولا تنطبق هذه الأرقام على الشام في القرن الرابع الهجري؛ لأن السياسة التي جرى عليها قادة الصليبيين إزاء اليهود كادت تفني الطائفة الإسرائيلية؛ ويقدر بنيامين عدد سكان الحي الخاص باليهود في القدس بأربعة أنفس، ولم يجد بتاحيا هناك إلا شخصاً واحداً، ويقول «بايلومارسيليوس جورجيوس» في خبر يرجع تاريخه إلى أكتوبر 1243م (ربيع الآخر 641هـ): إنه لم يكن في الحي الخاص بالبندقيين في صور إلا تسعة من شبان اليهود، أما «بنيامين» فيقول: إنه كان يسكن دمشق ثلاثة آلاف يهودي تحت حكم المسلمين –وعند بتاحيا عشرة آلاف- وفي حلب خمسة آلاف يهودي، أما على نهري دجلة والفرات فكان اليهود مجتمعين بكثرة»، وطفق يذكر تعداد اليهود في كل حاضرة إسلامية.
ثم يذكر أحوالهم وارتفاع شأنهم فيقول: «ولم يكن في التشريع الإسلامي ما يُغلق دون أهل الذمة أي باب من أبواب الأعمال؛ وكانت قدمهم راسخة في الصنائع التي تدرّ الأرباح الوافرة، فكانوا صيارفة وتجاراً وأصحاب ضياع وأطباء، بل إن أهل الذمة نظموا أنفسهم بحيث كان معظم الصيارفة والجهابذة في الشام مثلاً يهوداً، على حين كان أكثر الأطباء والكتبة نصارى، وكان رئيس النصارى ببغداد هو طبيب الخليفة، وكان رؤساء اليهود وجهابذتهم عنده، وكان أصغر دافعي الضرائب هم اليهود الخياطين والصباغين والأساكفة والخرازين ومن إليهم».
وتعد تلك الحقبة التاريخية العصر الذهبي للفكر اليهودي سواء في مشرق العالم الإسلامي أو قلبه أو مغربه، وهذا بذاته دليل لا يقبل النقض على روح التعامل الإسلامي مع اليهود، يسجل المؤرخ الفرنسي «إدوارد بروي» هذه الحقيقة قائلاً: «أما الفكر اليهودي فقد استيقظ برهة من الدهر، ونفض عنه الجمود واليبس الذي اعتراه من جراء التعاليم والمذاهب التلمودية، وعرف رئيس الكهنة «ساديا» في بغداد أن يكتسب شهرة واسعة بتجديده الناموس القديم، وراح يحاول من جهته التوفيق بين النصوص الكتابية وتعاليم الربانيين، أي بين مطلب الإيمان ومناهج العقل، ومن كل الجاليات اليهودية في أوروبا وآسيا كانوا يقصدون بغداد لاستيحاء تعاليم مدرستها المشهورة.. ومع ذلك، فازدهار المدارس الملية التي قامت في كل من القدس والقاهرة والقيروان –التي تجاوز إشعاعها ولايات إيطاليا الجنوبية- والأندلس، يبدي بصورة قاسية الصدارة التي احتلها ربابنة مدرسة بغداد على غير استحقاق أو جدارة أحياناً، ومنذ القرن الحادي عشر، أصبحت الأندلس ملاذ الفكر اليهودي، كما أصبحت مركزاً للإشعاع الثقافي في العالم الإسلامي».
ويزيد الأمرَ تفصيلاً «ألفريد مورابيا»، فيقول: «لقد تعمقت استقلالية اليهودية المصرية مقارنة ببغداد التي كانت مقراً للأكاديميات البابلية؛ فتم إقامة مدارس تلمودية ودينية، وكذلك أكاديمية في الفسطاط في آخر القرن العاشر، وتولى أحد «النجاد»، وهو رئيس الطائفية اليهودية، قيادة اليهودية المصرية والسورية.. هذا، وقد جاء أساتذة من الفلسطينيين حيث أقاموا على ضفاف النيل، حتى إن الطائفة المصرية أصبحت أقوى طوائف اليهودية إلى درجة أنه كثيراً ما كانت تزود أكاديمية كل من بابل ومن الأراضي المقدسة بكل احتياجاتها المادية، لن يمر وقت طويل حتى تصبح القاهرة –التي أسسها الفاطميون- مركزاً مُشِعاً لليهودية الشرقية؛ كما سنشاهد بروز المنافسات فيما بين المعلمين البابليين والفلسطينيين لاجتذاب حظوة يهود مصر».
ولذلك برز العديد من اليهود في تلك الحقبة سواء في العلوم الدينية اليهودية أو في العلوم البحتة أو في المناصب العليا للدول الإسلامية المتعددة المعاصرة للعباسيين؛ وبالرغم من أن «ماكس مايرهوف» يصنف العصر العباسي المتأخر من عصور الانحطاط ويزعم أن تزمت الشريعة خنق أصوات العلم، بالرغم من هذا يقول: «تزايد عدد اليهود بين الأطباء وعلى الأخص في قصور بغداد والقاهرة وإسبانيا، وربما يرجع ذلك إلى أن اليهود كانوا يتمتعون آنذاك بحرية نسبية إزاء القيود الطارئة التي فرضها تزمت الشريعة الإسلامية، وأصدق أنموذج للطبيب الشهير الممارس والفيلسوف والمعلم الديني في البلاط هو «موسى بن ميمون»، حيث وُلد في إسبانيا إلا أنه قضى معظم حياته الحافلة بالنشاط في القاهرة بحمى ورعاية صلاح الدين الأيوبي الشهير وأولاده من بعده».
في المقال القادم إن شاء الله تعالى نتناول كيف عاش اليهود في الأندلس، فالله المستعان.