عنوان هذا المقال لا يُمثّل منظومة كاملة لصياغة مدخل فكري وسياسي للجيل الثاني للثورة السورية، وإنما مقدمة له. ولا نقصد بهذا الجيل أنه ممن لم يشاركوا في الكفاح والنضال لنيل الشعب السوري حريته، ولكننا نعني الكوادر الميدانية والثقافية الحرة التي أدركت وتيقنت الخلل الذي تمكن عبره النظام الدولي من إسناد نظام بشار الأسد من داخل الثورة، وكيف كانت الهشاشة الفكرية -لا السياسية فحسب- مركزا رئيسيا لإسقاط الثورة في كفاحها الأول.
ويؤمن هذا التحالف الثوري بأن ما تم صبه على الثورة السورية من معادلات تآمر قوية ومنهجية -منذ اتحاد موقف تل أبيب وطهران على تأمين الأسد كخيار إستراتيجي لأمنهم القومي، وحتى اتفاق سان بطرسبورغ بين فلاديمير بوتين وباراك أوباما الذي أطلق يد الروس في حملة إرهابية مشتركة مع الإيرانيين- تآمر ضخم لا يتكرر بسهولة في التاريخ المعاصر، وأن الثورات التي كانت أقل خطراً على المصالح الاستعمارية لم تُترك؛ فكيف بثورة سوريا؟
غير أن البندين الفارقين في معادلة الجيل الثاني من الثوار -كَفَهْمٍ وتقييم منهجي مهني لا عاطفي- يكمن في إدراكهم أن الواقع الاجتماعي السوري للثورة كان مشرع الأبواب لمصالح النزعات والتسيّد الشخصية والحزبية، ميدانياً وسياسياً وثقافياً، وأن حَجم التدخل من الحلفاء عربا وإقليميين، حكومات وحركات دعم، وخاصة البنية السلفية الطائفية في الخليج العربي؛ كانا العنصرين العمليين لإسقاط الثورة.
وهو ما يدفع بالضرورة إلى دراسة نقدية لهذا الواقع وليست انتقامية عاطفية، ترصد وتسجل ما فعله الحلفاء في جسم الثورة، وكيف انتهى موقفهم الآن، وخاصةً إسناد السلفية الجهادية وتمكينها من الثورة، وتعزيز الهستيريا التي انتشرت في جسم الثورة في كل الاتجاهات، فأصبح لكل مجموعة ممثل ميداني ومشروع سياسي وإعلامي وحاضن ممول له، دون أن يكون هذا المشروع ضمن سياق اتحاد وتحالف مصلحي محكَم لخدمة الثورة، إن لم تحكمه المبادئ.
الجانب الآخر هو قوة ضعف الفكر الإسلامي النهضوي المعين على وعي مقاصد الشريعة، وتنزيل مقاصدها على قواعد الفكر السياسي، ومن ثم صياغة خريطة التعامل السياسي المنهجي، واستشراف أين كان ممكناً أن يتحقق اختراق في كل مراحل الثورة، قبل وبعد حمل السلاح، لينجو الشعب السوري من أقصى قدر ممكن من الاضطهاد، فيفر من قدر الله إلى قدر الله، وقد حقق مرحلة إستراتيجية لصالح ثورته أقل تكلفة من هذا القدْر الضخم، الذي لا يزال يُسفك حتى اليوم من دمائه الطاهرة.
والانتقال النقدي الثاني -ولو كان مُراً- هو إعادة تقييم جدوى قرار مرحلة حمل السلاح، الذي بدأ كمتطلب مشروع لحماية المدنيين بجسم اجتماعي موحد للشعب، لكن سرعان ما أفسده الحلفاء وحركة الإمداد التي رتبها النظام لتغيير قيادات السلاح، ليضمن وصول الميدان إلى حالة التعفّن الشامل، التي استدعت أن ينهض حلفاء الثورة وخصومها بعد ذلك لمساعدته ضمنا أو مباشرة، فتحقق له ما يريد.
بعد هذه المراجعات النقدية؛ تحتاج أمانة هذا التحالف النضالي -من إسلاميين وعلمانيين وكل وطني- إلى فهم ما يجري في منصات الحوار، أو التفاوض أو التسويات مع النظام، وأن كل المنصات بلا استثناء تتعامل مع الموقف العسكري المهيمن الذي يقوده الروس.
كما تحتاج إلى فهم أن هناك متطلبا دوليا وإقليميا موحدا لتسوية الثورة لا إسقاط النظام، وبقاء الأسد ليس مانعا بل حافزاً لهم، وبالتالي يفترض ألا ينهك هذا الجيل نفسه، أمام قاعدة تحصيل الحاصل الذي ستنتهي له المنصات.
وإذا كان هناك مسار تنفيذي ممكن يُضغط به على النظام، وتعدّل به شروط تسوية الثورة لصالح الشعب؛ فهذا خيار واجب، لكن مثل هذه القاعدة لا تقوم إلا على قوة ميدانية صلبة وهذا لم يعد قائما، فالانقسامات والتشرذم ليست فقط بسبب السلفية الجهادية التي تُتخذ مشجبا في بعض الأحيان، رغم أن هذا القلم من أوائل من كتب عن توظيف مموليها مخابراتياً بعلم أو جهل، وأن مئات الملايين -التي دخلت الميدان لتحييد الجيش الحر من الخليج شعبيا- كان تحت غطاء سياسي وأمني راصد.
غير أن ذلك لا يُلغي مسؤولية فسيفساء مجموعات داخل تحالف الجيش الحر وغيره، تلاعبت بها النزوات الشخصية والتمويل رغم نوايا أصحابها الصادقة، لكنه صدق لا ينفع أمام احتراق الميدان من خلاله. وهذه الحصيلة تجعل تحالف الجيل الثاني يُقيّم الوضع بدقة، ويُدرك أن ما يجري من دفع للحلفاء لبعض الفصائل هو دفع لمهمات خاصة، ربما تُحسّن الموقف إنسانيا وهذا مهم، لكنها ليست لشروط أو مصالح الثورة المركزية.
وهنا يدخل هذا الأمر ضمن التقييم المركزي المهم للمرحلة القادمة، حتى لا تستهلك عاطفة المناضلين والشعب في مواسم صاخبة، تنتهي إلى هذا الواقع البائس الذي أصبح فيه حتى شرط تنازل الأسد لأي من طاقمه ليس مطروحا لدى أقرب حلفاء الثورة.
هنا تنشر خريطة واضحة المعالم يتعامل عبرها الثوار الجدد بواقعية وعمق وإخلاص إيماني للثورة، وبالتالي يعد للمرحلة الإستراتيجية الجديدة في الكفاح السياسي، الذي تقف أمامه تحديات كبرى تحتاج إلى منظومة قوية من صناعة المجتمع المدني، وبالتالي لا يُعلن وقف إطلاق النار إلّا وقد كانت هذه الأفكار نضجت وسائط ترجمتها سراً في الداخل، بعد عودة الناس الذين أنهكتهم الحرب والعدوان إلى دورهم.
وتطرح أسئلة: كيف تبنى ثقافة المجتمع السوري الجديد؟ وما هي الرسالة الفكرية الموحدة له؟ ولا يوجد شك في أن الشعب السوري من أكثر شعوب الوطن العربي ذكاءً وحيوية، وأن كفاح المجتمع المدني الثوري قدم صناعة مبدعة في الزمن الصعب، وأن التضحيات والبطولات في كل ميدان فوق الوصف، لكن هذه المرحلة تحتاج إلى وعي أكثر خصوصية، وتقدير مشاعر الناس بعد حصاد الحرب المُرّ.
هنا تبرز منظومة الكفاح الثوري في صناعة الأفق السياسي والتربية النضالية، لكن من خلال منهجية راشدة تحتاج إلى كوادر ومفاهيم موحدة، يتحد عليها أبناء الوعي الإسلامي الجديد الذين أدركوا كيف استُخدمت القضية المذهبية -رغم جرائم الشيعية السياسية- لمصالح إقليمية عربية، ثم انطفأت بعد أن أطفأتها مخابرات الخليج.
والفكر الإسلامي الحر لا يزال مصدر إشعاع وإلهام بثوبه الجديد المعظّم للمعرفة والحوار والحريات الدستورية، لكنه غُيّب عن عقل الميدان، كما أن هذا المجتمع المنهك يحتاج إلى بنية تدعمه روحيا واجتماعيا، ولا يستطيع ظرفه الحرج أن يدخل في ثقافة مواجهة مع النظام.
ولا يُضمن حتى الآن انتشار طرف ثالث يؤمن مناطق الثورة، ولا يوثق بالروس مطلقا في هذا الاتجاه. وعليه؛ فثقافة الدعم المطلوبة يجب أن تحسب تماما أمان الشعب والمناضلين، لتحقيق هذه المرحلة الفكرية التي ستتجنب السلاح، وتترك البناء السياسي الثقافي يأخذ مداه بعد العودة إلى الوطن.
ومن المعروف أن جزءاً من شعب الثورة سيستقر في المهجر وفي تركيا خصوصا، وبعضهم -بناءً على إستراتيجيات العمق التركي لحزب العدالة والتنمية- قد يحصل على الجنسية التركية؛ فكيف سيستفاد من هذا المهجر الجديد في تركيا وأوروبا؟ وكيف ينخرط أبناؤه في نشر مفاهيم الجيل الثاني، ودعم المستقبل الجديد للمفهوم الثوري داخل سوريا، دون تعريض أبنائهم للخطر ولا مصالحهم لتصادم مباشر باتت مفاهيم الإقليم واتفاقياته ضده؟
كيف يُصنع الوجدان والروح العملية الجديدة التي تسعى للتخلص من ربطها بالدعم المشروط ثقافيا وليس سياسيا فحسب؟ وكيف يستفاد من حيوية الإنسان السوري وصبره لبناء قاعدة صمود ونجاح للحياة المدنية الجديدة ما بعد الحرب، تعطي مساحة للتنفس الإنساني والأفق الحر؟
وكيف ترسّخ حقوق الشعب السوري في الحياة في حين تصنع قاعدة التفكير الثوري المدني دون اشتراط لفترة زمنية، بل حتى تنضج أرضيتها التي دونها لا يوجد نصر بل اختراق جديد؟
هذا هو المدخل الذي يحمل الهم بوفاء إلى نصب الشهداء، فليكن بطيئاً لكنه أكيد، فمن جمع بين وضوح الفكرة وصفاء الأفق السياسي، وأحسن صناعة مشروعه، فإنه حينها يبتهل إلى الله وقد أخذ بسُنن النصر.
——
* المصدر: الجزيرة.نت