إنها المودة والرحمة التي بها يصل الزوجان معاً إلى بر الأمان، ويعبُر كل منهما على جسر السعادة في حياتهما الزوجية، ولا يُقصد بالمودة والرحمة ذلك الحب الطائش الذي يهبّ جارفاً عنيفاً ثم لا يلبث أن يهدأ ويذهب، ولا تلك المشاعر الموسمية التي تفيض في وقت ما لكنها سرعان ما تخبو وتنطفئ وتزول، بل إنما هي المودة الصادقة والرحمة الدائمة التي تلازم بيت الزوجية منذ أن يرتبط الزوجان بالميثاق الغليظ، وتستمر بينهما ما دام هذا العقد قائماً، وتلازمهما في الدنيا مهما تقلبت الأحوال، بل ويجتمعان معاً بها زوجين سعيدين في جنات النعيم، كما جاء في قوله “صلى الله عليه وسلم”: «نساؤُكم مِن أهلِ الجنَّةِ الوَدودُ الوَلود» (رواه البخاري).
امتن الله تعالى بها على الأزواج فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، قال البغوي: «جعل بين الزوجين المودة والرحمة فهما يتوادَّان ويتراحمان، وما شيء أحَبُّ إلى أحدهما من الآخر من غير رحِم بينهما»، وقال ابن كثير: «مودة: وهي المحبة، ورحمة: وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك»، وقال القرطبي: «قيل: المودة والرحمة عطف قلوبهم بعضهم على بعض، وروي عن ابن عباس قال: المودة حُب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها أن يصيبها بسوء».
وليست المودة والرحمة بين الزوجين بالأمر المُحال ولا من ضَرْب الخيال، فالله تعالى ذكرها كنعمة من نعمه العظيمة على الزوجين، وجعلها آية عظيمة تستحق التفكر والتدبر، وتتطلب الأخذ بأسباب الحصول عليها بكل الطرق الممكنة من قول أو فعل أو خلق، مع اجتناب ما يضعفها أو يميتها في القلوب، وقد ضرب لنا النبي “صلى الله عليه وسلم” -وهو خير قدوة وأحسن أسوة- المثل في ذلك، مما يتوجب على المسؤولين وأولي الأمر أن يجعلوا من سيرته “صلى الله عليه وسلم” كزوج أنموذجاً راقياً يُعلم ويُدرس لكل المقبلين على الزواج، ويُتخذ منها دستور للحياة الزوجية الراقية الرفيعة مما لا يدع مجالاً للترهات والتفاهات التي تسطو على بيت الزوجية لتحوله إلى أنقاض، وإلى سعادته فتجعله جحيماً لا يطاق.
النبي الودود الرحيم
كان النبي “صلى الله عليه وسلم” نِعم الزوج الودود لزوجاته المحب لهن، الرحيم بهن، لم تمنعه كثرة مشاغله وتعدد مسؤولياته عن القيام بحق كل منهن وبذل الود لهن والاعتناء بشؤونهن.
لقد كان من مودته ورحمته حسن العهد مع زوجته خديجة رضي الله عنها في حياتها وبعد مماتها، أما هي رضي الله عنها فقد أظهرت له من الود والحب والرحمة ما بادلها بأضعافه، انظر إليها وهي تبذل ودها وتبث رحمتها في قلبه من خلال كلماتها الخالدة حين أتاها قائلاً: «قد خَشيتُ علَى نَفسي»، فتقول هي له: «كلَّا أبشِر فواللَّهِ لا يُخزيكَ اللهُ أبداً واللهِ إنَّكَ لتصِلُ الرَّحمَ وتصدُقُ الحديثَ وتحملُ الكلَّ وتُكْسِبُ المعدومَ وتَقري الضَّيفَ وتُعينُ علَى نوائبِ الحقِّ» (رواه مسلم)، فامتدت مودته لها حتى بعد موتها، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «ما غِرْت على أحد من نساء النبي “صلى الله عليه وسلم” ما غرت على خديجة، وما رأيتها؛ ولكن كان النبي “صلى الله عليه وسلم” يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة»، قال النووي: وفي هذا الحديث ونحوه دلالة لحسن العهد، وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب.
كما كان من مودته ورحمته “صلى الله عليه وسلم” معرفة احتياجات الزوجة بالنظر إلى عمرها وحالها، فيترك عائشة رضي الله عنها تلعب بعرائسها، ويسرح لها صاحباتها ممن في مثل سنها ليلعبن معها، بل ويسابقها وتسابقه! يناديها يا عائش، يا حميراء، يشرب من موضع فمها، ويأكل مما أكلت منه، يتكئ في حجرها وهي حائض ثم يقرأ القرآن، يمدحها قائلاً: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (رواه مسلم)، وقد سئلت رضي الله عنها: «ما كان النبي “صلى الله عليه وسلم” يعمل في بيته؟ قالت: كان يفلي ثوبه (يخيطه)، ويحلب شاته، ويخدم نفسه (صحيح الجامع).
وهذا كان خلقه مع جميع زوجاته، وبالرغم من عظيم مهامه فإنه عادل؛ لا يحيف في القسمة بينهن في المبيت والنفقة والمسكن، وإذا أراد سفراً أقرع بينهن، لا يجامل إحداهن على حساب الأخريات، يتحمل منهن ما يحصل بينهن من الغيرة التي في النساء، وهو القائل: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها آخر» (رواه مسلم).
وتبدأ بحسن الاختيار عند الزواج، بعد الدعاء والاستخارة والاستشارة، وقد قال “صلى الله عليه وسلم”: «إذا أتاكُم من تَرضونَ خُلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريضٌ» (صححه الألباني، السلسلة الصحيحة).
إن هذا الخلق وهذا الدين الذي يتميز به كل من الزوجين سيكون له الأثر العظيم على بيت الزوجية، وسيكون سبباً في حلول المودة والرحمة في كل زاوية من زواياه.
إن الأخذ بأسباب حسن المظهر والتجمل من كلا الزوجين للآخر، والتودد بحسن الكلام وطيب المعشر، والتماس الأعذار والتغاضي عن الزلات والهفوات لهو طريق يمهد للمودة ويدعو إلى الرحمة، وإن لحظة ترفيه تجمع بينهما، ومشاركة منزلية تضمهما، ودعوة قلبية تظهر حبهما، والاستماع لشكوى والتوجع معها، والتداعي في مرض وتخفيفه، وتمريض المريض والقيام بحقه، وإتيان كل زوج بما عليه قبل أن يطلب ما له، والعدل الواجب عند التعدد، وتفهّم حال الزوجة وما جُبلت عليه من الغيرة على زوجها، وإعانة الزوجة زوجها على العدل وأداء الحقوق، كل ذلك من عوامل دوام المودة والرحمة بين الزوجين.
ذكر القرآن الكريم على لسان شعيب عليه السلام قوله لقومه: (وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ {90}) (هود: 90)، قال السعدي: «المودة هي المحبة الصافية»، ومن معاني الودود كما ورد في التفاسير: الحبيب، الرحيم، المودود، يوده عباده الصالحون ويحبونه، المتودد، فهو سبحانه الكثير المحبة والود لمن أطاعه واتبع هداه.
إن الله تعالى الودود هو واهب الود والمودة في القلوب، وجعل بمقدور القلوب أن تمتلئ مودة وتفيض رحمة إذا ما لانت ورقت، وأخبتت إلى ربها وخضعت، وإن المودة والرحمة ليستا مقصورتين على الزوجين فيما بينهما وإن كانا أولى الناس بهما، لكنهما أصل من أصول التعامل بين المسلمين جميعاً، فهما تؤديان إلى الامتزاج والانصهار في بوتقة الجسد الواحد.
سُحب وغيوم
قد تتعرض سماء الحياة الزوجية لبعض السحب والغيوم التي تهدد حياة الزوجين، وتحجب ما نشأ بينهما من مودة ورحمة، وإذا حصل ذلك فلا بد من اتخاذ الخطوات الصحيحة كي تزول الغيوم وتسفر عن شمس المودة ودفء الرحمة، وتنكشف السحب عن غيث الخير لكلا الزوجين، فيعود البريق للبيت السعيد من جديد، ومن هذه الخطوات:
– الرجوع والاحتكام إلى الشرع عند الخلاف، قال تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً {35}) (النساء).
– الأخذ بكل السبل الممكنة للصلح: قال تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء: 128)، قال السعدي: «وقد عبر سبحانه عن طلب الصلح بقوله: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» ترفقاً في الإيجاب، ونفياً لما يتوهم من أن تنازل أحدهما للآخر عن بعض حقه يؤدى إلى الإثم، لأن الصلح بينهما يقتضي أن يتسامح أحد الزوجين في جزء من حقه ليظفر بخير أكثر مما تسامح فيه، وأكد سبحانه هذا الصلح بقوله: «صُلْحاً»؛ للإشارة إلى وجوب أن يكون الصلح بينهما حقيقياً لا شكلياً، وأن يكون بحيث تتلاقى القلوب، وتصفو النفوس، وتشيع بينهما المودة والرحمة، ويرضى كل واحد منهما بما قسم الله له»، وقال ابن كثير: «والصلح خير»؛ أي: من الفراق.
——————————————————
(*) ليسانس شريعة – ماجستير الدعوة جامعة المدينة العالمية