إن تناول حياة الرجال العظماء الذين رسخوا قواعد دعوة الإسلام المعاصرة ليست مادة تطرح من أجل الاطلاع أو التسلية، بل إن مراجعة تلك الحيوات والأحداث والتصرفات هي مادة للتأمل، والتعلم، والاعتزاز بوجود مثل هؤلاء، الذين آلوا على أنفسهم أن يحملوا أمانة الدعوة إلى الله، ويرفعوا راية دينه، ويذبوا عن سُنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
محمد الغزالي.. الداعية المصلح
الشيخ محمد الغزالي السقا، عالم يعدّه الكثير من المهتمين بالفكر الإسلامي أحد أهم أعلام الفكر الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي أجمع عليه محبوه ومخالفوه.
ظل الغزالي حتى آخر نفس في حياته يناهز عن كتاب الله تعالى، وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما ظل لسانه يلهج بالتضرع لمولاه: “اللهم ارزقني الوفاة في بلد حبيبك المصطفى”، ولم يستجب الله سبحانه لدعائه بالوفاة في مدينة رسول الله فحسب، بل قبضه وهو يدافع عن دين الله؛ فبعدما دُعي إلى مؤتمر حول “الإسلام وتحديات العصر” بالرياض –رغم تحذير الأطباء له من المشاركة– اتهمه أحد الحضور أثناء كلمته عن السنة النبوية بأنه يعادي السنة؛ مما جعل الشيخ ينفعل دفاعاً عن سُنة النبي صلى الله عليه وسلم فأصيب بذبحة صدرية، ثم مات بعدما تحقق له ما كان يدعو الله تعالى به، وكانت آخر كلماته: “نريد أن نحقق في الأرض لا إله إلا الله”، وذلك في يوم السبت 20 شوال 1416هـ الموافق 9 مارس 1996م.
وما بين وفاته ومولده عاش الشيخ حياته كلها لله تعالى، محققاً شعاراً سار على منهجه منذ أن كان طالباً؛ “الله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا”.
ولد الشيخ الغزالي يوم السبت 5 من ذي الحجة 1335هـ/ 22 سبتمبر 1917م، في قرية نكلا العنب، بمركز إيتاي البارود، في محافظة البحيرة بمصر، في أسرة متدينة عمدت إلى حسن تربية أبنائها(1).
ووهب الله للشيخ الغزالي قلباً حياً، وعقلاً متفتحاً، وروحاً وثابة؛ فرسم منهجه أن يظل مدافعاً عن دين الله، وسعى لتحقيق ما رنا إليه من أهداف، وتعاون مع كل من عمل لدين الله، فأعجب بالأستاذ حسن البنا وسار في ركاب جماعة الإخوان المسلمين، وأثر وتأثر بها حتى أصبح مسؤولاً عن قسم الدعوة بها، وعضواً بالهيئة التأسيسية لها.
لم يداهن الشيخ الغزالي ولم ينافق، بل كان صرخة حق أمام كل ظالم، وشهدت له منابر المسجد بكلمات الحق(2).
لقد رحل الشيخ الغزالي بعدما ترك بصمات، وأثر من خلال عشرات المؤلفات، ومئات الرجال الذين تخلقوا بخلق الإسلام على يديه، ولا يكاد يحضر موقف إلا ونجد كلمات الغزالي حاضرة فيه، فتقبله الله في الصالحين.
أحمد ياسين.. رجل بأمة
لم يترك المجاهد الشيخ أحمد ياسين العذر لأحد في القعود عن الدفاع عن دينه وعزته وكرامة وطنه، ولم ترهبه الطائرات ولا قوة الأعداء ولا الموت الذي كان يحوم حوله كل دقيقة؛ ذلك لأنه تيقن من أن الآجال بيد الله سبحانه.
الشيخ أحمد إسماعيل ياسين، ولد على أرض الرباط، وتفتحت عيناه على مسرى النبي الكريم، وعلى أولى القبلتين وثالث الحرمين في 28 يونيو 1936م في جورة عسقلان التابعة لقضاء مدينة المجدل -التي تقع على بعد 20 كيلومتراً شمالي غزة- فوجد أن الأرض قد دنست، والناس قد قتلوا، والعدو يستهين بأمة المليار؛ فتولدت لديه روح العزة، خاصة أنه ولد في العام الذي حمل فيه عز الدين القسام مشعل الجهاد ضد الأعداء، فتسرب دمه في شريان كل مولود ولد، فحمل أرواحهم على أكفهم، وكان منهم ياسين.
مات والده وهو طفل صغير، إلا أنه حمل في قلبه همة الرجال، والتحق بالتعليم قبل أن ينتقل لغزة ويستقر فيها، إلا أنه استيقظ على فاجعة “النكبة” وعمره 12 عاماً، وحينما بلغ سن السادسة عشرة كان ينتظر ابتلاء آخر حيث كسرت بعض فقراته وهو يمارس لعبة المصارعة، وبدلاً من أن يُقعد هذا همته كما أقعد جسده؛ فإنه أعطاه دافعاً ليتفرغ لتربية الرجال بعدما تخرج في الأزهر الشريف(3).
لم يسْلم ياسين طيلة حياته -ورغم مرضه- من اعتداء الصهاينة عليه حتى فقَدَ عينه اليمنى، كما اعتقل من السلطة المصرية وقت محنة الإخوان في عهد جمال عبدالناصر.
سطر ياسين بخيوط ذهبية سير الرجال الذين أعلنوها انتفاضة على المحتل في 8 ديسمبر 1987م، وكان من نتاجها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي جعلت المستعمر يشعر بالخطر الذي يحيط به من كل جانب، فاعتقله الاحتلال في 18 مايو 1989م، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، حيث أذاقه المرار داخل سجن انفرادي، لكنه كان مضرب الأمثال في الصبر والاحتساب.
ظل في السجن حتى محاولة اغتيال خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» السابق؛ حيث خرج في عملية تبادل بين الأردن ودولة الاحتلال في أكتوبر 1997م؛ ليشعلها ناراً على المحتل في نفوس شباب متعطش للجهاد، والموت في سبيل؛ فكان أستاذهم صاحب القدوة العملية حيث لم يقعده عجزه عن المحافظة على عبادته –خاصة صلاة الفجر- وهو الموعد الذي اختاره الله له ليحظى بوسام الشهادة في سبيله بعد أداء فريضة الفجر؛ ليشعل جذوة النار في قلب كل مسلم ضد المحتل الغاصب، حيث اغتيل بطائرة «أباتشي» في يوم الإثنين غرة صفر 1425هـ الموافق 22 مارس عام 2004م.
الفضيل الورتلاني.. المجاهد الطريد
يعتبر العلامة الفضيل الورتلاني الجزائري من أبرز أعلام الحركة الإسلامية في الجزائر الذين كان له دور مهم وفاعل في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931م، وساهم مساهمة فعالة في التمكين لمبادئ الجمعية بالجزائر ثم فرنسا في صفوف العمال الجزائريين هناك.
ولد إبراهيم بن مصطفى الجزائري المعروف بـ”الفضيل الورتلاني” في 2 يونيو 1900م في بلدة بني ورتلان بولاية سطيف شرقي الجزائر، وإليها انتسب.
تعلم على يد العالم المجاهد عبدالحميد بن باديس الذي غرس فيه معاني حب الجهاد ضد المغتصب الفرنسي، فحمل منذ صغره رايه التنديد بتصرفاتهم.
تميز الفضيل بالانتشار الواسع بين الجزائريين بل وفي فرنسا، وحينما سافر لفرنسا عام 1936م مبعوثاً لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين عمل على بث الروح في العمال والطلبة الجزائريين في فرنسا، وأنشأ النوادي لتعليم العربية ومحاربة الرذيلة، كما كانت له اتصالات كثيرة مع الزعماء العرب والمسلمين؛ مما أغضب الفرنسيين، فهرب إلى إيطاليا ثم مصر حيث اتصل بعلمائها خاصة الذين اهتموا بالقضية الجزائرية(4).
شارك بمصر في تأسيس العديد من الجمعيات المدافعة عن القضية الجزائرية، بل كان له دور في ثورة اليمنيين ضد حكم الحميدين عام 1948م، وظل الفضيل مطارداً يتنقل من مكان إلى آخر، حاملاً همّ وطنه في كل مكان يستقر فيه، حتى سمح له رياض الصلح، رئيس وزراء لبنان، بالاستقرار في بيروت، ثم عاد لمصر قبل أن يفر منها.
حينما اندلعت الثورة الجزائرية في نوفمبر 1955م كتب في كل الصحف معلناً تأييده لها، ثم شارك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر مع الشيخ الإبراهيمي، وبن بيلا، وغيرهما، واستمر مجاهداً حتى لقي الله سبحانه في 12 مارس 1959م، ودفن في أنقرة قبل أن ينقل رفاته لمسقط رأسه عام 1987م(5).
___________________
الهوامش
(1) عبدالله العقيل: من أعلام الحركة الإسلامية، جـ1، طـ 7، دار البشير للثقافة والعلوم، طنطا، 2008م،ص936.
(2) جابر قميحة: المدخل إلى القيم الإسلامية، (دار الكتاب المصري، القاهرة 1984م)، ص 23.
(3) سيد حسين العفاني: شذا الرياحين من سيرة واستشهاد الشيخ أحمد ياسين، جـ1، طـ1، مكتبة آفاق، غزة، 2004م، 1425هـ، ص 36 وما بعدها.
(4) عبدالله العقيل: من أعلام الحركة الإسلامية، جـ1، مرجع سابق، ص 692.
(5) سعيد بورنان: الشيخ الفضيل الورتلاني: العلامة الثائر، دار هومه للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2014م.