استدعى القاضي «شمس الدين فناري» السلطان العثماني «بايزيد» الأول للإدلاء بشهادته، فلما دخل السلطان المحكمة ووقف أمام القاضي، وقد عقد يديه أمامه كأي شاهد عادي، رفع القاضي بصره إلى السلطان، وأخذ يتطلع إليه بنظرات محتدة، وقال له: «إن شهادتك لا يمكن قبولها، ذلك لأنك لا تؤدي صلواتك جماعة».
كانت مفاجأة كبيرة للسلطان وللحضور الذين اندهشوا من هذه الجرأة لدى القاضي، ولعلها أقرب إلى الإهانة أمام الناس، فتسمّر الحاضرون في أماكنهم، ينتظرون رد فعل السلطان، فما كان منه إلا أن استدار وخرج صامتاً من المحكمة بكل هدوء.
وأصدر السلطان بايزيد في اليوم نفسه أمراً ببناء جامع ملاصق لقصره في بورصة، وعندما تم تشييد الجامع، بدأ السلطان يؤدي صلواته في جماعة.
لم يأت هذا القرار من القاضي عشوائياً، وإلا لم استدعاه وهو يعلم أنه لا يحضر صلاة الجماعة في المسجد! إنما هي قضية تربوية من الدرجة الأولى، كما حصل في قصة الخليفة عمر بن عبدالعزيز مع أهل سمرقند.
والآن.. من هو بايزيد الذي التزم قرار القاضي؟!
إنه صاعقة الإسلام، سلطان إقليم الروم، الغازي جلال الدين يلدرم بايزيد خان الأول بن مراد بن أورخان العثماني، ويعرف باسم «بايزيد الأول»، أو يلدرم بايزيد، و«يلدرم» كلمة تركية تعني «البرق» أو «الصاعقة»، وهو لقب أطلقه السلطان مراد الأول على ابنه بايزيد لسرعة تحركه وتنقله برفقة الجند، لذلك كثيرا ما يعرف هذا السلطان في المصادر العربية باسم «بايزيد الصاعقة» أو «بايزيد البرق»، وهو رابع سلاطين آل عثمان.
انتزع بايزيد من البيزنطيين مدينة فيلادلفية، وكانت آخر ممتلكاتهم في آسيا الصغرى، وفتح بلاد البلغار والبوسنة وسلانيك وألبانيا، مما دعا البابا بونيفاس التاسع إلى شن حرب صليبية جديدة ضد العثمانيين، لطرد المسلمين من أوروبا، وشارك في هذه الحملة خمس عشرة دولة أوروبية، من بينها إنجلترا وفرنسا والمجر، إلا أن بايزيد سجل انتصاراً ساحقاً على الجيوش الصليبية، في المعركة التاريخية المشهورة «نيكوبوليس» سنة 1396م وردهم على أعقابهم.
وحاصر بايزيد القسطنطينية مرتين متواليتين، ولكن حصونها المنيعة ثبتت في وجه هجماته العنيفة، فتركها وعاد ليحمي أراضيه عندما علم بقدوم المغول، وعمل على تعزيز موقعه في آسيا الصغرى استعداداً للموقعة الفاصلة بينه وبين تيمورلنك، وهكذا خف الضغط العثماني على البيزنطيين، وتأخر سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين خمسين سنة.
نعم.. صاحب هذه الفتوحات، وهازم الصليبيين، «الصاعقة».. انحاز لرأي القاضي ولم يعترض، بل سارع لبناء مسجد يصلي فيه جماعة، وهكذا يكون النصر.
إن تعليم أبنائنا مثل هذه القصص التاريخية، تقدم لهم موائد تربوية جاهزة، لا نتكلف فيها بإيصال الرسالة والقيمة والفائدة، فهي تخترق قلوبهم وأفئدتهم وعقولهم، وتبث فيهم روح الشجاعة والأنفة والتواضع وحسن الخلق، فلا تحرموهم منها.
وهذه مسؤولية أخرى لوزارة التربية ووزارة الأوقاف ووزارة الإعلام لنشر مثل هذه القيم والمفاهيم الرائعة بأساليب مختلفة.
ومبارك عليكم الشهر.
___________________________
يُنشر بالتزامن مع صحيفة “الأنباء” الكويتية.