للأبعاد الاجتماعية في الإسلام مكانتها المرعية؛ فالإسلام بمقاصده وتشريعاته وعقائده هو رسالة ذات طابع اجتماعي تنظّم أمور الخلق، وتحكم تصرفاتهم، وتضع الضوابط لتعاملاتهم سواء على مستوى الفرد في حياته الخاصة من زواج وطلاق ومعاملة بين أفراد الأسرة فيما بينهم كعلاقة الزوج بزوجه، والأبناء بآبائهم وأمهاتهم، وكعلاقة الأبوين بأبنائهم وبناتهم، أو على مستوى المجتمع كتعامل الجار مع جاره، وكعلاقة البائع بالمشتري إلى آخر تلك المعاملات التي تفرضها طبيعة العلاقات الاجتماعية.
والمتأمل في قصة فداء إسماعيل يجد فيها تجليات تلك الأبعاد الاجتماعية ظاهرة جلية، فمن أول خيوط القصة تأخذك أجواؤها إلى تلك الأسرة الصالحة الهانئة التي لا ينقصها شيء سوى ضحكة طفل تملأ البيت الساكن حركة دائبة، وضجيجا حلوا يشنّف آذان الأبوين، إنها أسرة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وزوجه الطاهرة المطيعة “سارة”، فبالرغم من الاستقرار الأسري الراسخ، ومن جو المودة الطاغي الذي استمر لعمر مديد، فإن هناك توقًا للولد، ورغبة في امتداد الذِّكْر، وشوقًا للخلف الصالح، فما زال لسان إبراهيم يلهج بالدعاء صباح مساء (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ {100}) (الصافات)، فلمّا وجدت سارة رغبة زوجها في الولد، وأن سعادته معها منقوصة وهي العقيم، وقد كبرت سن زوجها (86 عاماً) تجلت ثمار تلك العلاقة الاجتماعية الطيبة بين الزوجة وزوجها؛ إذ لم تستطع أن ترى في عين زوجها رغبة في ولد هي غير قادرة – بمقاييسها- على أن تسعده به فتشير عليه بالزواج من غيرها عله يرزق بما تتوق إليه نفسه، وهنا يتجلى الإيثار، وتتضح المودة والحب الحقيقيين؛ فالزوجة المحبة لزوجها تسعى لإرضائه وإن كان في إرضائه بعض الألم، فما فائدة الحب الشريف إذا لم تكتنفه تضحية؟! إنه يصبح كلاماً معسولاً لا قيمة له، ولا فضيلة من ورائه!
تشير عليه بالزواج من “هاجر” وهنا تتبدّى صورة أخرى من صور تلك الأبعاد الاجتماعية، فهاجر كانت تحت يدها، واختيار سارة لها زوجةً لإبراهيم يشي بأنها رأت منها استقامة وحسن خلق، وقدرة على إدارة شؤون زوج تريد له سارة السعادة والهناء، فلولا تلك العلاقة الاجتماعية السوية بين سارة، وهاجر ما كان للأولى أن تختارها ضرة لها، فيتزوجها إبراهيم ويشاء الله أن يكون له منها الولد، ويهل الصغير صارخاً ليبدد سكون سنوات وعقود خيمت على ذلك البيت الهادئ، لكنّ إرادة الله تقضي بأن تكون طفولة إسماعيل في مكان آخر، هناك في واد غير ذي زرع عند بيت الله الحرام؛ لتسطّر هاجر ورضيعها صفحات من المجد والتضحية والصبر ينحني لها التاريخ إجلالاً.. تلبي الزوجة الجديدة طلب زوجها وترحل معه عن طيب خاطر إلى ذلك المكان القفر لتضرب المثل في التضحية وطاعة الزوج والرغبة في إرضائه ما دام هذا أمر الله، فقد رأت التضحية مجسَّدة تجسيداً عملياً أمام عينيها في سارة وهي تختارها لتتقاسم زوجها معها من قبل، فلن تكون هي أقل تضحية بل إن الأيام لتكشف لها عن أجَلّ التضحيات التي اختارها الله أن تكون عنواناً لها، ودليلاً عليها؛ “فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا ثم رجعت” (صحيح البخاري، حديث رقم 3184).
من هنا تبدأ رحلة التضحية والصبر، وتظهر ثمار الوشائج الأسرية الرصينة، والعلاقات الاجتماعية الطيبة، يُوْدِعُهما إبراهيم ذاك المكان المقفر الموحش، لكنه لم يتركهما وحدهما؛ فالله يرعاهما، فيستقبل بوجهه البيت الحرام، ويرفع يديه بالدعاء: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ {37}) (إبراهيم)، وقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) يجسّد الحرص على ذلك البعد الاجتماعي المنشود، فلما ينفد ما معها من زاد وماء تهرول “هاجر” بين الصفا والمروة إلى أن يشاء الله أن تنبع بئر زمزم فترى القبائل (أهل بيت من جرهم) المارة طائراً عائفاً يحلق فيعلمون أنه الماء، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم” (صحيح البخاري، حديث رقم 3184)، والبعد الاجتماعي ظاهر في تعامل هاجر أم إسماعيل مع قبيلة جرهم، وانظر لقول النبي الكريم: “وهي تحب الإنس” ليظهر لك بجلاء وبالدليل العملي أن “الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه”.
وينتقل بنا المشهد من مكة إلى هناك إلى فلسطين حيث يرى الخليل في المنام أنه يذبح ابنه الوحيد، فيحمل زاده وسقاءه ويرحل إلى مكة بلا تأجيل، ويقص الرؤيا على ولده: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102}) (الصافات)، إن الآية لتحمل من الدروس والقيم والعبر ما لا يسعه كلام، ولا يستوعبه مداد، من صبر وجَلَد، ومن طاعة وبِر، ومن انقياد لأمر الله، واستسلام لقضائه، ولكننا نلتقط منها بعض خيوط البعد الاجتماعي؛ حيث تلك العلاقة النموذجية المثالية التي يقف أمامها التاريخ في انبهار ليسجل أحداثها بحروف من نور؛ أبٌ يُرزق الولد بعد أن أصبح في عمر الشيخوخة بشهادة زوجته الأولى: (وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً) (هود: 72)، فلمّا يبلغ معه السعي يأتيه الأمر بذبحه، فيقص رؤياه على ولده، ويضع الأمر كله أمامه بوضوح وصراحة وجلاء (فَانظُرْ مَاذَا تَرَى) لتتجلى العظمة في أبهى صورها، ويتجلى البعد الاجتماعي كأظهر ما يكون التجلي، في تلك العلاقة الاجتماعية السوية بل قل: المثالية التي تجمع بين الأب وابنه، أو الابن وأبيه، فإن أردتها درسا في حسن التربية والتنشئة فابدأ بالأب، وإن أردتها درساً في بر الوالد كأفضل ما يكون البر فابدأ بالابن، على أنك في الحالين ستقف مشدوها أمام ذلك المشهد المعجز، غير المتوقّع من أب غائب عن ابنه، يدعو إلى الله في فلسطين، فلما يلقاه بعد طول اشتياق يخبره بأنه سيذبحه، وسيكون الذبح على يديه، لتمتحن القلوب، وتبلى السرائر، ويختبر الإيمان، فيستجيب الابن لأبيه، ويسلس له قياده، فإذا بالأب يناديه نداء الرفق والدلال: “يا بُنيّ” بالتصغير المُشعِر بتلك العلاقة الرحيمة الرفيقة بالولد، فيجيب الابن: “يا أبتِ” نداء البر والطاعة والخصوصية النابعة من الإضافة إلى ياء المتكلم، وكأنه يقول له: إنك لمّا كنت لي أباً ليس ككل أب، فسأكون لك ابنا ليس ككل ابن! أنت الأب الصابر على إيذاء قومه، وإلقائه في النار، المحتمل للأذى بكل أنواعه، المستحق لاصطفاء الله له بأن جعله” خليله”، ذلك الأب الأُمّة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {120}) (النحل)، لا بد أن أكون ابناً باراً به كأفضل ما يكون البر، مضحيا كأعظم ما تكون التضحية؛ (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ {102})، إن أبعاد العلاقة الاجتماعية لتُختزل في هذا المشهد وتتحد ضربا للمثل الطيب، وتتجمع إظهارا للقدوة الحسنة! ثم يدرك إبراهيمَ وابنَه لطفُ الله وكرمُه: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ {104} قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {105} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ {106} وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ {107} وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ {108} سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ {109} كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {110}) (الصافات)، ثم يشب إسماعيل عن الطوق ويتزوج من قبيلة جرهم تدعيما لتلك العلاقات الاجتماعية، وتلك العِشرة الطيبة بينهم.
ولمّا جاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ولم يجده وسأل زوجته عن حالهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما عاد إسماعيل وقصّت عليه ما حدث ففهم مغزى كلام أبيه فطلّقها طاعة له، وتزوج بغيرها فلما زارهم إبراهيم وسألها عن عيشهم وهيئتهم قالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ولم يكن لهم يومئذ حَب ولو كان لهم دعا لهم فيه” (صحيح البخاري، حديث رقم 3184).
وتظل الدلالات الاجتماعية تطل برأسها في كل موقف ومشهد لنفيد منها؛ فزوجة إسماعيل الأولى لم تحفظ لبيت زوجها حُرمة، ولم تصن لزوجها عهداً فأخذت تبوح بأسرار بيتهما لرجل بالنسبة إليها غريب؛ إذ لم تكن تعلم أنه أبو زوجها، والمرأة الصالحة تشكر ولا تكفر، وترضى ولا تطمع، وتخفي من أمور بيتها وأسراره ولا تُظهر، ومن ثم لم تكن أهلا لأن تصبح زوجاً لنبي من أنبياء الله عز وجل، أمّا الثانية، فقد حفظت وما جحدت، وصانت ولم تفرط، وأظهرت المحاسن وأخفت العيوب فكان أجدر بها أن تُثَبّت ولا تُغيَّر، وتبقى ولا تُستبدل، وقد سجّلت أمامة بنت الحارث شيئاً من ذلك في وصيتها لابنتها ليلة زفافها إلى ملك كِندة، فكان مما قالت:” أما الأولى والثانية؛ فالصحبة له بالقناعة ، والمعاشرة له بحسن السمع والطاعة ، فإن في القناعة راحة القلب، وفي حسن السمع والطاعة رضي الرب. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره”.
“ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك قال: وتعينني؟ قال: وأعينك قال: فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم” وهنا يظهر الجانب الاجتماعي في مساعدة الابن لأبيه، وطاعته له ليخلد القرآن ذكرهما إلى قيام الساعة في أشرف بقعة على سطح الأرض، قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {128} رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ {129}) (البقرة).
فيخلُد ذِكْر إبراهيم وإسماعيل، ويرتبط بالبيت الحرام، كما ارتبط من قبل ذِكْر هاجر أم إسماعيل بالسعي بين الصفا والمروة لتصبح من مناسك الحج؛ هذا، ولم ينسَ النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم لهاجر أم إسماعيل وزوج إبراهيم، ولمارية أم ابنه إبراهيم هذه الرَّحِم، وتلك الأبعاد الاجتماعية المرتبطة بها، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لهم ذمة ورحماً”.
وقال ابن الأثير في النهاية: معنى قوله: فإن لهم ذمة ورحماً، أي أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام كانت قبطية من أهل مصر، وأما ما يتعلق بمارية رضي الله عنها، فهو في رواية أخرى لحديث أبي ذر عند مسلم أيضاً، بلفظ: فإن لهم ذمة وصهراً، قال النووي في شرح مسلم وفي رياض الصالحين: أما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم.
لتظل للعلاقات الاجتماعية في الإسلام صورتها الناصعة، وحقوقها المرعية، ولتتضح في قصة فداء إسماعيل بعض ملامح تلك الأبعاد الاجتماعية التي يجب أن نقف عندها لنفيد منها في حياتنا إذا أردنا حياة اجتماعية كريمة، تظللها المودة ويحوطها الاحترام، وتشملها القيم.