يجدر بنا في سياق تشخيص أدواء الوعي الحضاري ومعوقاته الحديث عن عبثية الحياة الثقافية وأزمة الإبداع وتسرب المبدعين إلى الحارات الجانبية من خلال رصد الأسباب وكشف العوائق التي تحول بين القارئ والمتلقي؛ فهل هي أزمة قراءة أم غياب نص لمبدع ينتمي لعالمه وعصره؛ يكتب عن المهمشين ليرصد عللهم ومن ثم يساهم مجتهدا في ملء الفراغ المصطنع؟
للأسف تصدر صفحات أدبية لكنها أقرب إلى حديث الناعي الأصم أو الرسام المصاب ببتر أصابعه فيأتي كل شيء فاقداً معناه متأبياً على الذوق والجمال.
تبحث عن مثال متفرد فتجد ذلك البهت يتردد في كل سطر ويتخم القراء بما تتجشأ به نفوسهم.
لقد عجز الأدب أن يجذب إليه النحل لأنه فقد حلاوته وعلاه الكساد وجفاه الجمال.
أين شاعر مثل شوقي وسارد كالرافعي ومحارب بقلمه كالمازني!
لكأنما هو موات قصد به أن يفقد الناس متعة الشعور بالحياة؛ حيث تغدو الغثائية ملمح الصورة.
كان القارئ يتابع فيما مضى معارك طه حسين ويستمع إلى شدو بلابل الدوح في الشام أو العراق ترفرف فوق ضفتي النيل لحناً آسراً، مدارس ومقاهٍ ومنتديات للكلمة وفن القول؛ يتردد أثير الإذاعة بذلك الوهج فتغدو الأذواق رفيعة والنفوس ممتلئة حكمة وبيانا؛ رغم قلة الوسائل وضعف الأدوات.
تشخيص الداء
من العبث أن نتباكى دون حديث عن العلة التي أفسدت والذائقة التي خمدت نار جذوتها، حيث بات التعليم قالبا لصم لا يسمعون وبكم لا ينطقون، تحت وقع الحاجة فقد الكتاب قارئه، لا يعرف الطالب غير ما يستحلبه من ورق ليدف به إلى ورقة الامتحان البائسة؛ ليحجز بها مقاعد لرغيف الخبز المقدد.
تكتب وتجمع شارد عقلك وتستجمع جهدك ثم تعرض على أصحاب الياقات البيضاء فيعرضون عنك إزوراً ورفضاً أن يدخل ناديهم من ليس من ذوي قرابتهم أو من هو بهم أشبه.
ولعل أزمتنا في الكتاب أنفسهم ممن يكتبون في تلك الغرف العالية ويترفعون عن آلام المجتمع والمساهمة في تثقيفه وبعث الحياة فيه، لقد كان المثقفون مشاعل الهداية فباتوا الآن في سبات عميق.
أين الأديب الذي يدفع بقارئه إلى الانتماء لأمته وتاريخها؛ عبر الحديث عن النماذج القديرة والمثل الرفيعة؟
لقد رفع الإنجليز شكسبير إلى درجة العبقرية والتفرد ونحن نميت روائع مبدعينا تجاهلاً بل وتنكراً لدورهم في بعث النهضة الحضارية، نعلي دائماً شأن الجانب السياسي وإذكاء الصراع.
كل هذا مانع من الإبداع ومميت للشعور بأهمية القلم في بعث حياة ونشر فضيلة وإن بحت أصوات فوق منابر القول، علينا أن نقاوم الرتابة كما نحاذر من الداء، لا سبيل غير نشر الوعي ومحاربة الفساد الثقافي؛ نعيد المجلات المتخصصة في الأدب كالرسالة والثقافة والمقتطف، عوامل النجاح متعددة ومنها:
أن ندرك عمق الفجوة الحضارية التي هوت إليها الأمة فذلك بداية تشخيص الداء، نعي دور الحضارة في إيلاف سبيل للنهوض، التعليم والثقافة قرينان لكن زيادة الاهتمام بالتعليم لسد احتياجات السوق وإغفال أهمية الوعي بأثر الثقافة يحيل الطلاب لآلية فجة.
وأن ندع الترهل والعجز فلدينا عوامل الصحة والقدرة على تقديم نماذج لمبدعين جدد شرط أن نوجد البيئة الصالحة التي يتربى فيها الأطفال على حب بلادهم والتغني بمآثرها ومن ثم يعملون حين تشتد سواعدهم على نهضتها ورفعتها؛ لا سبيل بغير تعليم راق بلغة قومية معصرنة؛ لا تقبع في دهاليز الماضي ولا تحايل العصر بفنونه ومنجزاته؛ ساعتئذ نجني أطيب الغرس وأفضل العمل؛ شباباً مهذباً واعياً لا تتخطفه غوائل التطرف ولا تقتله السلبية.
تترهل الأمم وتعجز إذا غابت ملامح قوتها الناعمة؛ من مبدعين ينشدون رقي الذوق العام وتثقيف الناشئة وتهذيب السلوك العام، أحوج ما نكون لدفن أصنام الثقافة الجاثمة على الصدور؛ يريدونها نهباً وميراثاً لذوي قرابتهم بعيداً عن قيمة الفن وروعة الأدب!