وفي عام 1970م نشرت جمعية الإصلاح الاجتماعي مجلة «المجتمع» «جريدة أسبوعية إسلامية»، هكذا كان وصفها في صدر العدد الأول من السنة الأولى الذي صدر يوم الثلاثاء 9 المحرم 1390هـ/ 17 مارس 1970م، وتدفقت في الكويت بعدئذ إصدارات ثقافية وأدبية على هيئة سلاسل شهرية وفصلية، أشهرها «عالم المعرفة»، و»عالم الفكر»، و»مسرحيات عالمية».. وغيرها.
ولأن «المجتمع» صدرت عن جمعية أهلية، فقد كان ثوبها متواضعاً؛ لأنها لا تمتلك إمكانات الحكومة وإصداراتها الباذخة، ومع ذلك تضمنت «المجتمع» موضوعات قوية مباشرة، يمكن أن نطلق عليها بلغة الصحافة «موضوعات ساخنة» عبّرت عنها افتتاحية العدد الأول.
على صدر العدد الأول اسم أول رئيس تحرير للمجلة (الجريدة كما كانت تصف نفسها)، وهو الأستاذ مشاري محمد البداح، وبيانات الناشر، وعناوين المجلة والإعلانات.
تضمنت الصفحة الأولى رسماً مهماً ذا دلالة، عبارة عن شخص يرتدي عقالاً فوق الغترة الخليجية وسترة سوداء وبنطالاً، وفي يده بندقية ذات «سونكي» مشهر، ويدوس المواطن أو الجندي المسلح ما يشبه القمامة مكتوب على بعض مفرداتها: الفساد، الاستعمار، الصهيونية، مع إشارات ترمز إلى كل مفردة، والدلالة واضحة لا تخفى عقب هزيمة عام 1967م، وهي الاستعداد للقتال والدفاع عن شرف الأمة وكرامتها.
وفي الصفحة ذاتها مربع يحتوي على كلمة خالدة للبطل المسلم التاريخي صلاح الدين الأيوبي يقول فيها: «إنه متى يسّر الله لي بفتح (تحرير) بقية الساحل (ساحل الشام المحتل من جانب الصليبيين)، قسّمتُ البلاد (نظمتها) وأوصيتُ، وودعتُ، وركبتُ هذا البحر إلى جزائره المختلفة واتبعتهم فيها حتى لا أُبقي على وجه الأرض أحداً ممن ظلم وبغى، وأموت في سبيل الله».
وهذه الكلمة الخالدة متصلة الدلالة بالرسم السابق الذي نشرته المجلة في صدرها، ومضمونها واضح لا يحتاج إلى مزيد، فهذه صفات البطل المسلم الشجاع الذي حرّر القدس بعد عقود من السيطرة عليها، وتعرّض أهلها المسلمون للقتل والتهجير، فالرجل يعدّ نفسه لمواصلة مسيرته الجهادية المباركة ومتابعتها بتحرير بقية نقاط الاحتلال الصليبي، ثم يركب البحر المتوسط لينظف جزره من الظالمين البغاة الذين يمثلون عنصر إمداد وتموين للغزاة الصليبيين.
لا ريب أن هذه الكلمة جاءت في الوقت الذي انهارت فيه الجبهات العربية أمام العدو الصهيوني، وتمثل روح المقاومة ورفض الاستسلام لإرادة العدو، في لحظة الإحساس الزائد بوجع الهزيمة وألمها القاتل، واستدعاء نموذج الظفر والنصر والإصرار على مواجهة العدو في كل مكان.
في الصفوف والأمامية
وهكذا تضع «المجتمع» نفسها على خط النار دون تردد، أو تقف في الصفوف الأمامية دفاعاً عن الإسلام والأمة، وهو ما أكدته المجلة في مقالها الافتتاحي الخاص بشرح سياستها التحريرية ورؤيتها الفكرية، وكان يحمل عنوان «في الضوء»، ويشير إلى صدى الإعلان عن صدور «المجتمع» لدى بعض القوى السياسية، وعدم ترحيبها بوجود منبر إسلامي في تلك المرحلة.
تقول المجلة: «.. بدأت الرجعية تتحرك لتعويق الزحف الثوري وضرب القوى التقدمية، هذه المصطلحات ومئات أمثالها دُفع بها لتلقانا على الطريق، وتعترك معنا»، ثم تشير المجلة إلى الاتهامات والإشاعات التي أطلقها خصوم الحركة الإسلامية، وتعبّر «المجتمع» عن وعيها بمثل هذه الاتهامات ووضعها تحت الأقدام كما تقول.
فالمجلة تصدر عن هيئة أو جمعية الإصلاح الاجتماعي، وتستمد فكرها من الإسلام، وعلى ضوئه ومقياسه سوف تتقبل بصدر رحب كل نقد هادف بنّاء، وترفض النقد الغوغائي والتجريح الذي لا يقبله الخلق الإسلامي، تمد يدها للناس جميعاً، يداً ترفع راية الإسلام وتبشر بالخير والبرّ ولكنها سوف تقف في تحدّ من خصوم الإسلام، كما تقف إلى جانب قضايا الأمة في أرض الإسلام، في كل مكان.
وقد أعطت المجلة اهتماماً خاصاً لآراء القراء، وجعلت الحوار معهم إستراتيجية ثابتة، فالقارئ يمثل مرآة لحركتها وتفاعله معها وتأثيرها فيه، وما إن أعلنت عن نفسها واعتزامها الصدور حتى وردت إليها رسائل متنوعة، فنشرت رسائل تحمل عناوين ذات دلالة مثل: تحذير وتناقض، والباليه في مدارسنا، وهمسة حول الحفلات الراقصة في الفنادق، ودعوة إلى الحرب على الرذيلة.. وكانت الرسائل تنشر بأسماء صريحة أو بالحروف الأولى، ولم يقصّر محرر الباب في دعوة القراء إلى التفاعل مع الجريدة (المجلة) بالنصيحة والتوجيه والإرشاد و»العون على النفس إذا أخطأنا».
مهمة جهادية
ومع هذه الأريحية والسماحة، فإن «المجتمع» كانت حريصة على أن تبرز مهمتها الجهادية ضد الفكر المنحرف أو العدوان الفكري على الإسلام، فقد تصدرت الصفحة الأولى عناوين الموضوعات التي تعالجها المجلة في صفحاتها التي بلغت ثلاثين صفحة، وكان من أبرز موضوعاتها علاقة اليسار بالعمل الفدائي الفلسطيني، وكان اليسار في ذلك الحين محصّناً، والاقتراب منه مكلّفاً، بحكم تبني الحكومات التي كانت تسمي نفسها ثورية الفكر اليساري بتنوعاته المتعددة، كما كان الموضوع الثاني المهم هو الهجوم التبشيري على الكويت الذي يتخذ أنماطاً مختلفة من الأساليب الخبيثة.
وفضلاً عن ذلك، فهناك موضوعات أخرى متنوعة تتناول أخبار العالم، والقضية الكردية، والمشكلات الطبية، ودروس الهجرة النبوية، وشؤون الأسرة، وترجمات لبعض علماء المسلمين؛ مثل غلام شودري محمد، عالم باكستان المعروف، بالإضافة إلى أحوال فلسطين، وسموم التلفزيون الصهيوني، ومسابقات ثقافية وأخبار بلا عنوان.
وقد ضم العدد الأول مقالين لاثنين من الأعلام، أولهما د. عيسى عبده (رحمه الله)، وكان متخصصاً في الاقتصاد، ولعله كان من وراء فكرة الاقتصاد الإسلامي بكتبه العديدة التي ناقشت قضايا الاقتصاد على المستوى المحلي والدولي، وقد تجسدت فيما بعد من خلال البنوك الإسلامية حيث تعتمد المشاركة بدلاً من الربا، والعَلَم الآخر هو د. سالم نجم (رحمه الله)، وكان متخصصاً في أمراض الباطنة، ومثالاً للأخلاق الفاضلة، ولا أزكّيه على الله، وقد عالجني من بعض الأمراض المزمنة في فترة الثمانينيات.
وكان طبيعياً أن تبحث المجلة الوليدة عن دعم مادي يضخ الحياة في شرايينها، فجاءت الإعلانات لتشكل عنصراً مهماً من عناصر الدعم، وقد رأينا في العدد الأول إعلانات عن بعض الأجهزة الكهربائية؛ مثل المكيفات، والسيارات مثل سيارات «فولفو» الجديدة، التي وصفت نفسها بأنها «في قوة الصلب السويدي ومتانته، في أناقة بلاد الشمال وقوتها».
الشجاعة المهذبة
ظلت «المجتمع» في سنواتها التالية حتى الآن ترفع راية الشجاعة المهذبة في مواجهة الباطل وخدمة الحق على المستويات كافة، دون أن تتخلى عن موقعها على خط النار أو الصفوف الأمامية، وكان أفقها الرحب في فهم الأحداث والتعبير دافعاً لها كي تتطور باستمرار شكلاً وموضوعاً، وتتجاوز المصاعب والمتاعب التي مرت بها المنطقة، وتعرضها لتهديدات الأشرار في بعض العواصم.
وحين أُغلقت الصحافة الإسلامية في بعض البلدان العربية وفقاً لخطط شيطانية، فإن «المجتمع» فتحت صدرها لكل صاحب قلم حرّ نبيل، دون منّ ولا أذى، ولا هرباً وراء عباءة شعوبية مقيتة أو نظرة ضيقة عليلة، فكانت بحق منبراً لكل المسلمين من الأقطار العربية والإسلامية، وحين زرت بعض البلاد الإسلامية البعيدة رأيت حرص بعض القراء على متابعة «المجتمع» مع «الاعتصام» و»الدعوة» و»حضارة الإسلام».. وغيرها.
وقد أتيح لي أن أشارك في الكتابة على صفحاتها في الثمانينيات، وزادت مشاركتي في التسعينيات التي شهدت أحداثاً جساماً؛ احتلال الكويت وحرب الخليج الأولى، والبوسنة والهرسك.. وكان الأستاذ إسماعيل الشطي رئيساً لتحريرها في تلك المرحلة (لم أشرف بمعرفته شخصياً)، وظل في الكويت فترة الاحتلال العراقي ولم يغادرها، وشارك أهلها مصاعب الحياة، لدرجة أنه قام بأعمال يدوية مساعدة لإخوته في الوطن الجريح.
أما أحمد منصور – مذيع «الجزيرة»- وكان مديراً للتحرير، فله قصة مثيرة حين تعرض لمتاعب الاحتلال، وكان لما يزل متعاقداً جديداً، وقد عرض لهذه القصة في بعض كتبه، وعرفته في عام 1987م في المنصورة، بوصفه مديراً لدار نشر جديدة، ولكن دوره الصحفي في أفغانستان والبوسنة والهرسك كان مهماً للغاية، فقد زود «المجتمع» و»الاعتصام» و»الدعوة» برسائله الصحفية المهمة عن الأحداث التي تجري في بلاد الأفغان تحت الاحتلال الشيوعي الروسي، وكانت الصحف العربية المحلية والمهاجرة تغضّ الطرف عن مأساة الشعب الأفغاني وما يتعرض له من قصف بالغازات السامة التي كانت تسمى المطر الأصفر من جانب الطيران الروسي، وبالإضافة إلى الرسائل الصحفية، فقد نشر أحمد منصور في «المجتمع» على حلقات كتاباً سماه «مستقبل كابول»، كما تجرأ وذهب إلى سراييفو والتقى بزعماء المسلمين في البوسنة والهرسك، وكشف كثيراً من جوانب المأساة التي تعرض لها المسلمون هناك.
وكان من الكتّاب الدائمين في مجال الشأن العام د. توفيق الواعي (رحمه الله) الذي كان يكتب مقالاً ثابتاً مميزاً له تأثير كبير ومتابعون كثيرون.
وعلى مدى خمسين عاماً، فإن «المجتمع» لم تتوقف عن التطوير والتجديد، واهتمت بمجالات عديدة تخص المسلمين، خاصة الاقتصاد، والتربية، والأسرة، والترويح، والفتاوى، والأعلام، والثقافة والأدب، واحتضنت الشباب الموهوبين الذين صاروا اليوم أعلاماً في الشعر والرواية والنقد، ومما نشرته للشاعر الكبير حسن الأمراني في شبابه، وهو شباب دائم متجدد، قصيدة جميلة عن رأس السنة، يقول فيها:
مضت سنة وأطلت سنة
وفوق الصدور صدى الأزمنة
فلا الثلج يخلع ثوب البهاء
ولا الغيث يحتضن السوسنة
«المجتمع» في حاجة إلى باحث متفرغ في الماجستير أو الدكتوراه يرصد ويحلل ويقوّم الدور العظيم الذي قامت به في حدود إمكاناتها المتاحة.
نرجو لـ»المجتمع» في عيدها الخمسين طول العمر والتجدد، ولموقعها الإلكتروني دوام التوفيق والتحديث، لتكون دائماً في الخطوط الأمامية.
والله من وراء القصد.