لا شكّ أنّ القراءة أحد المعايير الأساسيّة التي تدلّ على درجة تحضّر كلّ أمّة من الأمم، والأمم التي لا تقرأ لا يتوقّع منها أن تبني حضارة، كيف وهي تهمل أعظم أداة وهبها الله إيّاها لتغذية العقول وسقايتها بعبر الماضي وجديد الحاضر وآفاق المستقبل؟!
ينبغي علينا أولاً أن نسعى لتصحيح موقع القراءة في حياتنا؛ فهي ليست هواية كما هو معروف وشائع، بل هي ضرورة لا بدّ منها، القراءة ليست ترفاً يملأ المرء فيه وقت فراغه، وإنّما هي أداة المعرفة الأولى التي تبني فكر الإنسان وقيمه وسلوكه، وإلا لما كانت هي الكلمة الأولى التي نزلت في وحي السماء على خاتم أنبياء الله ورسله. بالقراءة تنمو مدارك الإنسان، ويكتمل وعيه، وبها يتحصّن لمواجهة الجهل والخرافات والأوهام، من خلالها يعرف أخبار الماضي وما كان فيه ليتلمس منه المواعظ والعبر والدروس، ومن خلالها أيضاً يكتشف أحوال حاضره وما يدور حوله، ومن خلالها أيضاً يستشرف مستقبله ويخطط له.
لا شك أنّ الحضارات لا تقوم إلا على جهد الإنسان، وأنّ الأمم لا ترتقي إلا بعزيمة أبنائها المزودين بالعلم والمعرفة، والقراءة أولة أدوات العلم والمعرفة، وعلى الرغم من تطوّر وسائل التعلّم وتنوعّها وانتشارها ما زالت القراءة أهم وسائل التعلّم وأيسرها لاكتساب العلم المعرفة.
القراءة حاجة إنسانيّة لأنّها تملأ أوقات فراغنا بنشاط مفيد مثمر يساعدنا على تحسين ظروف حياتنا، ويوسّع مداركنا ويطوّر آليّة تعاملنا مع ما يمرّ بنا من أحداث وملمّات
ولقد وصل الإنسان بفضل العلم وأدواته إلى اكتشافات هائلة ساهمت في توفير سبل الراحة والسعادة للبشريّة كلّها، وهذا دليل قاطع على أهميّة القراءة وأثرها في حياة الإنسان، فهي غذاء عقله وروحه وسلاحه الفعّال في سعيه لعمارة هذا الكون، وبالمقابل رأينا أمماً ما زالت غارقة في التخلّف والضعف والفرقة والتناحر لابتعادها عن طريق العلم وإهمالها لأدواته وإعراضها عن القراءة المثمرة.
وقد حددت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” منذ عام 1995 يوم الثالث والعشرين من إبريل من كلّ عام يوماً عالمياً للكتاب وحقوق النشر والملكية الفكرية كخطوة على طريق إعادة مكانة القراءة في حياة الإنسان، وتشجيعاً لتنشيط نشر ثقافة القراءة، والحفاظ على دور الكتاب وأهميته ومكانته في حياة الأفراد والمجتمعات.
يقول الدكتور محمد الوهابي -وهو أديب وطبيب للأطفال- في كتابه (لكل طفل كتاب): “بينما أنا عائد من هولندا إلى بلجيكا في القطار، كان بجانبي سيدة هولندية بمعيَّة ابنها الصغير، فجأة طفق الطفل في البكاء، فتحت الأم حقيبةً في يدها وسلَّمت له كتابًا، وراح يقرأ بحيويَّة وارتياح، وانقطع عن البكاء، واستغربتُ من هذه الحادثة؛ لأنني ظننتُها ستعطي ابنها الحلوى، فإذا بها تعطيه زادًا نفسيًّا لا ينضب معينُه، وهو الزاد الفكري الذي يحتاجه أطفالنا كثيرًا”.
القراءة حاجة إنسانيّة لأنّها مفتاح المعرفة؛ لأنهّا من المصادر الرئيسة التي تمدّنا بالمعلومات عن الحياة والكون وما يقع فيهما من وقائع وأحداث، لأنّها تنقل لنا خبرات العقول وتجارب الشعوب والجماعات، القراءة حاجة إنسانيّة لأنّها تملأ أوقات فراغنا بنشاط مفيد مثمر يساعدنا على تحسين ظروف حياتنا، ويوسّع مداركنا ويطوّر آليّة تعاملنا مع ما يمرّ بنا من أحداث وملمّات، القراءة حاجة إنسانيّة لأنّ فيها متعة للنفوس، وترويح لها عمّا تلاقيه من تعب ومشقّة، وهي تكابد ظروف الحياة. كانت القراءة -وما زالت- من أهمّ أهداف التربية، وغرضاً أساسيًّا لها، وهي على المدى البعيد الغرض الأقوى أثراً والأكثر فائدة، ومن أعظم ما ينبغي الحرص عليه والاهتمام به توجيه الأطفال إلى حبّ الكتاب والقراءة.
نوع القراءة المقصودة
القراءة المقصودة هنا هي القراءة بمعناها الواسع الذي يشمل كلّ أنواع الكتب النافعة، ولا يقتصر على المقررات التي تفرض على الإنسان كالمقررات المدرسيّة أو الجامعيّة؛ لأنّ القراءة عملية تحليلية بنائية تفاعلية، لا يقصد منها مجرد معرفة الكلمة المكتوبة ونطقها بطريقة صحيحة، بل لا بدّ أن يرافقها الفهم واستحضار المعنى، والاستنتاج والتفكير النقدي، وربط المقروء الحالي بالمقروء السابق وتفسيره على ضوئه وتقويمه.
* المصدر: مدونات الجزيرة