كانت أكبر الدول المتضررة من انتشار فيروس «كورونا» الصين وإيران وإيطاليا وإسبانيا، وما زال الأمر بالنسبة لمصر غامضاً، في ظل عدم الشفافية في بداية انتشار الفيروس، ثم التوجه نحو شفافية جزئية، ثم تصريحات مسؤولين دوليين بخطورة الوضع في مصر، وليس آخرهم تصريحات السفير الفرنسي في القاهرة «ستيفان روماتيه»، عبر الحساب الرسمي للسفارة على موقع «تويتر»، إذ قال: إن «أمام مصر أسابيع صعبة، وسيكون أمام إمكاناتها الطبية تحدٍّ صعب»، لافتاً إلى أن البلاد «ستواجه عزلة مثل باقي بلدان العالم بسبب تفشي وباء فيروس كورونا المستجد».
لقد أدت مخاطر هذا الفيروس القاتل إلى إعلان منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ على نطاق دولي لمواجهة تفشيه، وقد انتقل تأثيره من القطاع الصحي للقطاعات الاقتصادية، وإذا كان البعض توقع حدوث أزمة مالية عالمية في منبت النظام الرأسمالي، فإن توقعاتهم لا يمكن القول بأنها تحققت في الأزمة الحالية التي بدت نواجذها في دول العالم لا سيما الدول الكبرى منها، فالأزمة هذه تختلف عن أزمة الكساد العظيم في عام 1929م، وأزمة عام 2008م، باعتبار أن شرارتها اشتعلت في القطاع الصحي ثم انتقلت للاقتصاد المالي والحقيقي.
لقد كان من تأثير فيروس كورونا اقتصادياً تحقيق خسائر في كافة قطاعات النشاط الاقتصادي عالمياً، فالبورصات تسابقت في الانهيار، وكساها اللون الأحمر، وتم إغلاق العديد منها للحيلولة دون المزيد من الانهيار، بل إن الذهب الذي يعد الملاذ الآمن تعرض للانخفاض بصورة ملحوظة من أجل حرص الدول والمؤسسات على توفير سيولة لمواجهة الأزمة، كما أن سعر النفط كذلك لم يسلم من الهبوط الحاد، فضلاً عن انخفاض الإنتاج في القطاعات الحقيقية للاقتصاد العالمي.
الطاقة والنقل الجوي
ووفق منظمة «ريستاد إنيرجي»، فإنه في أبريل الجاري يمكن أن يتراجع الطلب على الطاقة بأكثر من 11 مليون برميل يومياً، بينما توقع بيت تداول الطاقة (ترافيجورا) تراجع الطلب 10 ملايين برميل يومياً على المدى القصير، وبالنسبة لعام 2020م؛ توقعت وكالة الطاقة الدولية هبوط الطلب على الطاقة بـ730 ألف برميل يومياً، بينما توقع بنك «جي بي مورجان» هبوطه إلى 750 ألف برميل يومياً.
كما تشير تقديرات اتحاد النقل الجوي الدولي إلى أن شركات الطيران العالمية سوف تخسر 113 مليار دولار من مبيعاتها في حال استمرار انتشار فيروس «كورونا»، وأكدت منظمة السياحة العالمية أن خسائر قطاع السياحة على مستوى العالم، بسبب قرارات العديد من الدول بتعليق حركة الطيران نهائياً، بلغت حوالي 62 مليار دولار أمريكي، فضلاً عن شلل بجميع الوجهات السياحية على مستوى العالم.
وقد جاءت التداعيات الاقتصادية لأزمة «كورونا» نظراً لما تمثله الصين من مكانة اقتصادية عالمية، فهي الاقتصاد الثاني عالمياً بعد الولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن الإجراءات التي اتخذتها دول العالم لتجنب قدر الإمكان ويلات الفيروس القاتلة.
يزيد ناتج الصين المحلي الإجمالي على 14 تريليون دولار، وتبلغ صادراتها نحو 2.5 تريليون دولار؛ بنسبة 12.5% من صادرات العالم.
وإذا نظرنا إلى أهم القطاعات ذات التأثير المباشر على الصين والدول المرتبطة بها تجارياً، فسنجد أن الصين تستورد 50% من الطلب العالمي من الفولاذ من روسيا وكوريا الجنوبية وتركيا؛ وهو ما يعني فقدان تلك الدول عوائد تلك الصادرات، كما أن التراجع الملحوظ للنفط والتوقع بالمزيد منه في ظل انهيار اتفاق دول «أوبك» على تخفيض الحصة المنتجة، ذات تأثير سلبي على الدول النفطية، ونظراً لأن الصين تستهلك أكثر من 10% من النفط العالمي، لا سيما من المملكة العربية السعودية التي تستورد منها مليون برميل يومياً، والعراق الذي تستورد منه 700 ألف برميل يومياً؛ فإن هذا يعني تحقيق خسائر للدول المصدرة مضاعفة من ناحيتين؛ ناحية السعر بانخفاضه، وناحية الكمية بانخفاض الطلب على النفط كنتيجة طبيعية للظروف القاسية التي تعاني منها الصين من جمود اضطراري لإنتاجها.
وإذا كانت الصين -وفق منظمة السياحة العالمية- تمتاز عن غيرها بأنها المصدر الأول للسياحة في العالم، حيث بلغ عدد السياح الصينيين للخارج 150 مليون مسافر في العام 2018م، أنفقوا مبلغ 277 مليار دولار؛ فإن هذا يعني فقدان العديد من دول العالم للسياحة الصينية.
كما أنه بنظرة فاحصة إلى التجارة السلعية الإجمالية العربية مع الصين، نجد أنها -وفق بيانات صندوق النقد العربي- بلغت في العام 2018م نحو 1.9 مليار دولار، حيث بلغت الصادرات الصينية للدول العربية مليار دولار، بينما بلغت الواردات 0.9 مليار دولار، كما بلغت الصادرات العربية للصين نسبة 12.5%؛ لتحتل الصين المرتبة الثانية بالنسبة للصادرات العربية بعد الاتحاد الأوروبي، وبلغت الواردات العربية من الصين كذلك نسبة 12.5%؛ لتحتل المرتبة الثالثة بعد الاتحاد الأوروبي والدول العربية الأخرى، وبذلك نجد تأثيراً سلبياً على الجانبين الصيني والعربي بفعل مستجدات هذا الفيروس القاتل، الذي قتل البشر، وأصاب الاقتصاد في مقتل.
الاقتصاد العربي
إن الاقتصاد العربي، للأسف الشديد، من أكثر المتضررين من الأزمة، لا سيما الاقتصاديات النفطية الريعية، وهو ما ينذر بتقليص إنفاقها، وتعرضها لشبح الركود كغيرها من الدول، لا سيما أن الولايات المتحدة الأمريكية -وهي أكبر اقتصاد عالمي- تعاني شبح الركود أيضاً، حتى أبلغ بنك «أوف أمريكا»، أحد أكبر البنوك الأمريكية، مستثمريه بأن اقتصاد الولايات المتحدة دخل مرحلة الركود بسبب تفشي فيروس «كورونا المستجد» (كوفيد-19)، كما نقلت قناة «سي إن بي سي» عن الخبيرة الاقتصادية في البنك الأمريكي «يكي ميشيل ماير»، أن الركود المرصود يمثل «حالة تراجع عميقة» في الاقتصاد، متوقعة أن يتسبب ذلك في «فقدان للوظائف وتدمير للثروات وانهيار الثقة».
وقد واجهت الدول الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، هذه الأزمة الاقتصادية بالعديد من الإجراءات السريعة لتقليل آثارها؛ حيث قررت إدارة «ترمب» حزمة تحفيز بتريليون دولار من أجل امتصاص التداعيات الاقتصادية للفيروس، شملت شيكات بألف دولار للأمريكيين، فضلاً عن 50 مليار دولار لشركات الطيران التي تواجه شبح الإفلاس، و250 مليار دولار قروضاً للشركات الصغيرة، وقد سارت على نهجها العديد من الدول لا سيما بضخ السيولة وتحفيض سعر الفائدة الذي قارب حاجز الصفر في الولايات المتحدة وبريطانيا منذ أيام.
وقد جاءت أخيراً تصريحات الطبيب «ميك ريان»، الرئيس التنفيذي في منظمة الصحة العالمية لإدارة برامج الطوارئ، لتكشف عمق الأزمة واستفحالها، حيث وصف الوضع بأنه: «ليس مجرد موسم أنفلونزا سيئ، هناك أزمة صحية تزداد مع وطأة الحاجات المتزايدة، هذا ليس طبيعياً، والأمر سيصبح أسوأ»، وهذا يعكس خطورة هذا الوباء الصحي الذي انتقل إلى جسم الاقتصاد فأصابه بوباء اقتصادي، وتخفيض سعر الفائدة في ظل ظروف هذا الوباء لن يكون وحده حلاً ناجعاً، فالاقتصاد مثل الجسم المريض الذي يرفض نقل دم إليه، ومهما نقلت إليه من دم سيلفظه، فالإنتاج وجانب العرض يحتاج إلى طلب فعال، وهذا الطلب سيكون مركزاً في ضروريات الناس بتلك المرحلة، وسيكون هناك فائض في عرض غيرها من السلع وتوقف دولاب إنتاجها، وهو ما يعني ركوداً لا مناص منه يتوقف تحوله لكساد على وجود علاج لفيروس «كورونا».
ورغم تحسن الوضع الصحي نسبياً في الصين، فإن الواقع والمستقبل يكشفان الحاجة لشهور للوصول إلى علاج لـ»كورونا»، وفق تصريحات مسؤولين سياسيين وعلماء غربيين، وهو ما يعني استمرار أزمة «كورونا» صحياً واقتصادياً، وحاجة الوباء الاقتصادي الناشئ عن وباء «كورونا» إلى المزيد من الوقت للتعافي، وقد يتطلب ذلك التعافي الاقتصادي 3 سنوات إذا ما تم كشف العلاج الناجع لـ»كورونا».
ويبقى بعد ذلك كيفية التعامل مع الأزمة من قبل المستثمرين، فلا مفر لديهم من تنويع استثماراتهم من خلال محفظة متنوعة فهو الأنسب، وفقاً للمثل الإنجليزي «عليك بنشر المخاطر»، أو المثل المعروف «لا تضع كل ما تملكه من بيض في سلة واحدة»، لا سيما والذهب ينخفض، والدولار معرض للانخفاض دولياً بفعل طباعة المزيد منه، وتبقى الأزمة أزمة، والتعامل معها باعتبار أننا في أزمة، والمهم الخروج منها على الأقل بأقل الخسائر.
والله تعالى هو الحافظ وهو أجل وأعلم.