– منطق التطوّر التكنولوجي فرض نفسه لاعباً أساسياً في حياة الفرد الاجتماعية فأحدث تغييراً شاملاً في مفهوم الأسرة وأدوارها
– شتّان ما بين الرعاية بما تحويه من رعاية جسدية والتربية وتهذيب السلوك وتنقية الروح
– التطوّر سُنة الحياة وفيه منافع كثيرة ولا بد أن تكون الأسرة هي من يدير تلك التكنولوجيا وتوظّفها في خدمتها
فيما نراه اليوم من تغيرات أصابت جميع مكونات المجتمع وأبنيته، يكمن سؤال فيما يتعلق بالبناء الأسري وما طرأ عليه من تغيير في الوظائف والأدوار، فيأتي تساؤل واحد: من المسؤول الأول عن التربية؟ مثل ذلك التساؤل قديماً لا يحتمل إلّا إجابة واحدة؛ نعم هي الأسرة، ولكن.. هل ستكون الإجابة هي نفسها إذا ما طرحنا ذلك التساؤل اليوم؟!
لقد تأثر كل شيء بتكنولوجيا التطوّر، ففرض منطق التطوّر التكنولوجي نفسه لاعباً أساسياً في حياة الفرد الاجتماعية، فأحدث تغييراً كبيراً وشاملاً بمفهوم الأسرة وأدوارها؛ فتنازلت بالتالي الأُسرة عن عددٍ كبيرٍ من وظائفها الأساسية، وأهمها التربية لصالح آخرين لا يرتبطون بالأسرة، ولا يدركون خطورة ما يتعاملون معه، فإدارة المؤسسة المعنية بالتربية ضعفت فتدخّل البعض لتقديم استشاراتهم وتوجيهاتهم ونصائحهم أحياناً نحو طفل أرهقه تعدد مسؤولوه ومربوه، فهو تائه في مؤسسة نسيت أهدافها الأساسية وأولياتها من جهة، وبين تعدد القنوات والمثيرات التي تسعى للتأثير به والسيطرة على قراراته، فسيطرت الوظيفة الاقتصادية في تلبية احتياجات الأفراد المادية على باقي المهام والأدوار، بل أصبحت هي الأولوية رقم واحد في أجندة الأسرة، وشتّان ما بين الرعاية بما تحويه من تغذية ورعاية جسدية ومادية، والتربية وتهذيب السلوك وتنقية الروح، فكلاهما له حاجته، ولكن تكامل الجسد والنفس هو مؤشر نجاح الأسرة في واجباتها تجاه أفرادها.
نعم، إنّ التطوّر سُنة تلك الحياة وفيه منافع كثيرة، لكنّ على الأسرة أن تتذكر دوماً أنّ تلك الآلة التكنولوجية لم تأتِ لتبعثر دور الأسرة وتهدم أركانها، حيث كان لا بد أن تكون الأسرة هي من يدير تلك التكنولوجيا وتوظّفها في خدمتها، وليس أن تقوم التكنولوجيا بفرض نفسها على البناء البشري؛ حيث إنّ العلاقة الأسريّة لا تحتاج آلة أو مُخترعاً، بل تحتاج إلى إنسان وقلب، مودة وتعاطف، إننا اليوم نعيش في مجتمع مضطرب أركانه، حيث فقدنا الاتصال مع أبنائنا، ونحتاج إلى “وقفة حقيقية” مع أنفُسنا لإعادة وظائف الأُسرة المسلوبة.
تراجعت الأسرة فأعطت المجال للآخرين في التأثير، فشكّل ضعفها قوة وحضوراً للآخرين، فكان الطريق سالكاً أمام عديد المؤسسات والجهات لنشر أفكارها ومعتقداتها في عقول هؤلاء الأبناء، مما خلق منهم أفراداً بلا هوية واضحة؛ مما جعل أطفالنا أحياناً ينتقون من المنظومة التربوية ما يتناسب مع خيالهم، لا مع منظومة القيم الأسرية ونظامها التربوي.
ما بين عبق الماضي ونظامه التربوي الصارم، والحداثة والتكنولوجيا تغيرت عديد المفاهيم، فاتّسعت المسافات بين أفراد الأسرة؛ فأصبحت اللقاءات الأسريّة تعتمد على المناسبات تارةً والصدفة تارةً أخرى، إنّ مسؤولية تربية الأبناء مشتركة بين الأب والأم معاً، فكلاهما يشكل جزءاً مكملاً للآخر، فواجب الآباء والأمهات أن يعطوا طفلهم حق التربية منذ نشأته الأولى، فإن كبرت معه لا يمكن تغييرها أو زعزعتها، فواجبكم التربية الحسنة لأبنائكم، فهو استثماركم للمستقبل، فاستثمروا في أبنائكم قبل أن تستثمروا لأبنائكم!
فرأس الخيط يبدأ وينتهي بالأسرة، فهي التي تنتج هؤلاء الأفراد بما يحملون من قيم وأخلاق، ومهما كان تأثير المؤسسات الاجتماعية الأخرى فلا تأثير يتفوق على تأثير الأسرة إن قامت بدورها الحقيقي وليس ما تقوم به “أشباه الأسر”! تراجعت الأسرة عن أدوارها في التربية والدعم النفسي والانفعالي والاجتماعي والرقابة تحت وطأة التطوّر والحداثة، فتغيرت الأولويات والأدوار.
في صفحات الماضي أو الآن أو ما سيكون، ستبقى الأسرة هي العلامة الفارقة في التربية، فمنها تبدأ عملية بناء الأجيال، فاحرصوا، أيها الآباء والأمهات، على بناء جيل ذي خلق وقيمة وصاحب منظومة أخلاقية فريدة، إن الأبناء أمانة، فاحرصوا على أداء أماناتكم.
_________________________________
abdelfttahnaji@yahoo.com