انتشر بيننا أن من لا يستقيم له العلم ويتأبى عليه، فإنه يلجأ للعمل بأي حرفة أو صناعة.
وكذا أصبح نظام التعليم يجعل المؤهلات العليا ومِن قبلها الثانويات العامة لأصحاب المعدلات والمجاميع العالية في المرحلة المتوسطة (الإعدادية)، ومَن دون المعدلات يدخل الثانويات الفنية (زراعية – تجارية – صناعية – فنية)، أو ما يسمى بالتكوين المهني لتعليمهم بعض الحرف والصناعات، ويقف الأمر بهم دون الجامعة في الغالب، وبعضهم قد يصل للجامعات العمالية، أو بعض الكليات العملية.
وهؤلاء المتخرجون في الثانويات الفنية في الغالب لا يعملون بما تعلمونه.
فأصبحت الحرف في مجتمعاتنا في أزمة؛ إذ بقيت الحرف على نظام التوريث من (الأسطى أو المعلم) للصبي، وقد لا يطالها التطوير والتحديث فيتجاوزها الزمن، وتحل محلها الآلة، وهذا ما قد اعتمدت عليه الشركات العملاقة التي استغنت عن كثير من العمال.
وفي القرن الماضي ظن كثير من الآباء أن التعليم والشهادة (أي: المؤهل العالي) هما اللذان يكفلان للإنسان الدخل العالي والعيشة الهنيئة.
فكثر حاملو الشهادات وأصبحوا أكثر من احتياج سوق العمل، وفي المقابل قل أصحاب الحرف والصناعات حتى احتاجهم الناس، فزادت أجورهم وأسعارهم بطريقة مبالغ فيها.
وأحيانًا كثيرة لا يصاحب غلو الثمن في الأجر الكفاءة في العمل والإتقان.
ومما دعا إلى انصراف الناس عن الحرف والصناعات أنهم نظروا إليها نظرة دونية؛ فالأستاذ أعلى طبقة من الحرفي، والمهندس أعلى من المقاول… إلخ.
فزهد الناس في الحرف، وصرفوا أولادهم عنها، وأصبح دليل فشل الابن اتجاهه للحرفة.
فوقع المجتمع في أزمة ناتجة عن سوء التقدير، وسوء الإدارة، أزمة في الندرة والكفاءة والتحديث، وأصبح الاعتماد على الاستيراد والسلع المستوردة ذات الكفاءة والجودة العالية.
وانحدر منحنى الاستيراد إلى استيراد منتوجات ليست ذات كفاءة لرخص سعرها عن المنتوج المحلي، فخسر الإنتاج المحلي وأصحاب الحرف وبارت سلعهم.
وهذا ناتج عن جشع المستوردين وبحثهم عن الربح وعدم التفكير في مصالح الآخرين، وتمحورهم حول ذاتهم ومصالحهم الشخصية.
والدول هي التي تضبط هذه الأمور وتوازن بين مصالح الجميع.
وخروجًا من هذه الأزمات، وضبطًا للتوازنات المجتمعية يجب أن يُنظر إلى الحرفة نظرة غير تلك النظرة الشائعة.
فالعلم لا يضاد الحرفة، بل يعمل على تطوريها ومواكبتها للزمن والمستجدات من احتياجات الناس.
والحرفة تقوم على ثلاثية متوازنة: أصول – إبداع – تحديث، وأي اختلال في ضلع من الأضلاع تكون أزمة الحرفة.
والإسلام أعلى من فكرة وقيمة الاحتراف، وهذا أمر بدهي؛ إذا المجتمعات لا تقوم على العلماء وحدهم، ولا على التجار وحدهم، والصُّناع وحدهم، بل يحتاج إلى جهود الجميع، وهذا مصداق قوله -تعالى: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 32].
وقد شرُفت بعض الصناعات بانتسابها إلى بعض أولي العزم من الرسل وبعض مشاهير الأنبياء.
وقد أُنقذت البشرية من الطوفان وكان تأسيسها الثاني على يد نبي الله نوح -عليه السلام- الذي لولا صناعته للسفينة لما نجا أحد من الخلق لما عمهم عذاب الله.
والذي نادى على البشرية النداء الذي اخترق حُجب المكان والزمان إبراهيم -عليه السلام- الذي أُوكل إليه بناء البيت الحرام.
وأعظم ملوك بني إسرائيل هو داود -عليه السلام- الذي كان حدَّادًا.
فهؤلاء الرسل والأنبياء كانوا صناعًا، وعادت صنعتهم على البشرية وأقوامهم بالخير والنفع العميم.
يقول الخطَّابي: إن “الله لم يضع النُّبوة في أبناء الدنيا وملوكها، لكن في رعاء الشاء وأهل التواضع من أصحاب الحرف”([1]).
وروي في الأثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن آدم كان حراثًا، ونوحًا كان نجَّارًا، وإدريس كان خياطًا، وداود كان زرَّادًا([2]).
ومن خلال لمحة سريعة عن بعض هؤلاء الرسل والأنبياء وصنعتهم نقول:
1- نوح وزكريا النجَّاران
ليس لدينا معلومة مؤكدة عن كيفية اكتساب سيدنا نوح لرزقه، لكن ما علمناه من خطاب الذكر الحكيم أن يده لم تكن خلوًّا من الصنعة التي أنجته ومن آمن معه، وأن التصميم كان من عند الله، والتنفيذ كان بيد نوح -عليه السلام.
يقول -تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾ [هود: 37-38].
وهذه الصناعة التي قام بها لم تكن للارتزاق وكسب المعاش، بل كانت لهدف آخر محدَّد وهو إنجاء البشرية.
وهذا على عكس سيدنا زكرياء؛ فقد ذكر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن نبي الله زكرياء -عليه السلام- كان نجَّارًا([3]).
وقال النووي: “فيه جواز الصنائع، وأن النجارة لا تُسقط المروءة، وأنها صنعة فاضلة، وفيه فضيلة لزكرياء -صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان صانعًا يأكل من كسبه”([4]).
فصنعته هنا كانت للارتزاق والاكتساب.
2- إبراهيم وإسماعيل البناءان
وتلك الحرفة لم تكن كذلك لكسب المعاش لإبراهيم وابنه -عليهما السلام، ولم يطلب ذلك منهما أحد من البشر حتى يأخذا منه أجرًا، بل كان أمرًا إلهيًّا خالصًا، في مكان لا يطمع أحد أن يرتزق فيه؛ فهو واد غير ذي زرع، لكنهما امتثلا لأمر الله، وصور الله فعلهما فقال: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127].
فهما قد وقع أجرهما على الله، وعاش بناؤهما قرونًا متطاولة.
3- داود الحداد
هذا النبي الذي أوتي الملك كان صاحب صنعة يأكل منها، وهو الذي ذكر بينا -صلى الله عليه وسلم- له هذه الفضيلة، فقال: “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ“([5]).
وهو لم يكن في حاجة لهذه الصنعة أو العائد منها، لكنه آثر ألا يرفل في نعيم الملك وأبهة السلطان، بل أصبح كير النار أحب إليه من ريح الطيب، والقبض على الحديد خيرًا من مسك الديباج والحرير.
وكانت صنعته تلك منَّة من الله عليه وعلى قومه وقوة وبأسًا؛ قال -تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ [الأنبياء: 80].
بل قد أمره ربه في معرض ذكر منته عليه أن يُحكِم صنعته، وأرشده لخير طريقة في صناعة الدروع فقال: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [سبأ: 10-11].
وأخيرًا فإن الأمم القوية هي التي تكون دولاً صناعية وليست استهلاكية، هي التي تجعل العلم في خدمة الصناعة وتطويرها وتحديثها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(*) باحثة جزائرية
([2]) انظر: المستدرك، (2/652)، ووهَّى إسناده ابن حجر في “فتح الباري”، (4/306).
([3]) رواه مسلم، (4/1847)، ح(2379) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه.
([5]) رواه البخاري، ح(2072) عن المقدام -رضي الله عنه.