نتناول في هذه المقالة بدايات التغريب في التعليم الحديث بالعالم الإسلامي، من خلال ثلاثة نماذج شكلت عبر التاريخ الإسلامي روافد رئيسة للحضارة الإسلامية؛ هي تركيا ومصر وإيران؛ في محاولة لتتبع الاختراقات المعرفية للتغريب في المنظومة القيمية المسؤولة عن تشكيل الشخصية المسلمة.
يبدأ المشهد الفكري من حالة الضعف الذاتي الذي كانت تعاني منه الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر دون أن يكون هناك إدراك حقيقي من قِبَل السلطة الحاكمة لهذا الضعف، ويرجع ذلك لعاملين:
الأول: أن التفوق الأوروبي لم يكن بارزاً بالصورة التي تشكل خطراً واضحاً على الدولة العثمانية الذي برز لاحقاً في القرن الـتاسع عشر.
الثاني: يتمثل في كون الدولة العثمانية لا تزال في تصنيف الدول العظمى (أو الإمبراطوريات الكبرى)، هذا التصنيف الذي بدأ بالتراجع في التاريخ المذكور.
مع تنامي الضعف داخل الدولة العثمانية واستمرار التفوق المادي الأوروبي في الصعود، لم يجد السلاطين العثمانيون إلا الخيار الأقرب والأسهل في تصورهم لمعالجة القصور والضعف من ناحية، واللحاق بالصعود الأوروبي أو تقليل الهوة من ناحية أخرى، وكان هذا الخيار هو «النقل والاقتباس»، أو استيراد أفكار النهضة والتقدم بدلاً من معالجة المثالب والعيوب الذاتية، وقد بدأ استخدام هذا النهج فيما يتعلق بالمجال العسكري الذي لاقت فيه الإمبراطورية هزائم متعددة من الداخل والخارج، وكانت هذه البداية في عهد السلطان مصطفى الثالث (1757 – 1773م)، حيث «تم استحضار النموذج الأوروبي الحديث، واستمر هذا الاهتمام بالمجال العسكري أساساً لسلاطين الدولة العثمانية؛ لتستطيع الدفاع عن نفسها وسط إرهاصات التفوق العسكري الأوروبي، وذلك حتى مجيء السلطان محمود الثاني حيث شملت إصلاحاته جوانب إدارية وتعليمية أخرى على النظام الأوروبي»(1).
بين التعليم الديني والعسكري
وفيما يتعلق بنظام التعليم المسؤول عن التشكيل المعرفي للإنسان داخل المجتمع، وفي ضوء التغلغل الواضح لحركة التغريب؛ نجد -كما يشير «جوستين ماكارثي»- أن التغيير (الناتج عن التغريب) الأكثر تأثيراً نتج عن النظام التربوي الأوروبي؛ «فكتب الحساب والمثلثات الضرورية للهندسة العسكرية والمدفعية كانت مكتوبة باللغات الأوروبية، وخاصة الفرنسية لغة القرن التاسع عشر في أوروبا، والتعليمات لتشغيل الآلات وكتيبات التصليح كانت أيضاً باللغات الأوروبية»(2)، «كما بدل السلطان محمود التوجه الألسني للحكومة، وأعطيت مكاتب الحكومة تعليمات بفتح أكثر المدارس نجاحاً؛ (مثل) مكتب الترجمة التابع لوزارة الخارجية الذي أسس عام 1833م، ولم يخرج هذا المكتب مترجمين فحسب، وإنما ساهم في تدريب الإداريين الذين اكتسبوا توجهات غربية، وفتحت اللغة أمام الإداريين العثمانيين وكبار الرسميين باب الثقافة الأوروبية، وبسرعة أصبح خريجو مكتب الترجمة قادة السلطة التنفيذية في الدولة»(3).
ومن ناحية أخرى، نلاحظ أنه في ظل الاهتمام بالتعليم العسكري في بدء الاتصال بالغرب لم يتم الالتفات إلى التعليم الديني، «فالنظام التعليمي الحديث تمركز في مجالين؛ أحدهما عسكري والآخر مدني هدفه مد الجيش والإدارة بالكوادر اللازمة لهما، وفي حدود حاجة الدولة للعمالة في كل قطاع، وكان التعليم العسكري أيسر منالاً في ولايات العراق والشام من التعليم المدني الذي كان القبول فيه يتطلب فرزاً اجتماعياً دقيقاً جعله مقصوراً على أبناء الأعيان، بينما ظلت المدارس الدينية الإسلامية تقدم لطلابها الثقافة الدينية التقليدية، اعتماداً على ما كان لديها من أوقاف تدر عليها من أبناء الطبقتين الفقيرة والوسطى، وظلت تلك المدارس –في معظمها– تقدم تعليماً دينياً لم يتأثر بالاتجاهات الإصلاحية الحديثة، وإلى جانب هذين النظامين قام نظام تعليمي ثالث، قدمته مدارس الإرساليات التبشيرية على اختلاف مذاهبها(4).
كما انتشرت المدارس العلمانية التي تخرج أصحاب المهن اللازمة لتلبية احتياجات الجيش الجديد الذي كونه باسم العساكر المحمدية المنصورة، واحتياجات المجتمع، كما تأسست المدارس الإعدادية (الرشيدية) لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، والمدارس الفنية لتنشئة الموظفين، ومدرسة الحربية لتنشئة الضباط، وأنشئت المؤسسات التي تهتم بالشئون الصحية والطبية في الدولة(5).
وأدخلت اللغة الفرنسية إلى المدارس إلى جانب اللغة التركية في المدارس التي يلتحق بها أفراد الأقليات غير المسلمين والأتراك من أبناء الأسر الميسورة، وسرعان ما جرى التصريح بإنشاء مدارس وكليات أجنبية فرنسية في غالبيتها، تدار من جانب المبشرين، وظهرت مؤسسات علمية على نسق أوروبي مثل «مجلس المعارف» الذي قام على غرار الأكاديميات الفرنسية لإعداد الكتب التي ستدرس في الجامعة المزمع تأسيسها، والغرض الأصلي منها إيجاد شكل أكاديمي يحقق اتصالاً بالحياة الفكرية والعلمية الأوروبية، وافتتحت الجامعة، وكانت تسمى دار الفنون عام 1286هـ/ 1869م، وسار هذا جنباً إلى جنب مع التعليم الديني الموجود في المدارس والكتاتيب، وهو القاعدة بالنسبة للمناطق الريفية البعيدة عن تأثير المثقفين العثمانيين آنذاك، ومن أهم التغيرات التي أتت بها التنظيمات –أيضاً– استخدام الأقليات في مجال التعليم؛ مما يعد أمراً جديداً في تاريخ الدولة التركية(6).
وفي ظل السلطان عبدالعزيز (1861 – 1876م)، بدأ التعليم العام الواسع النطاق لتخريج موظفين، وشملت بنيته: التعليم الأولي، وكان مخصصاً من حيث المبدأ للأطفال اعتباراً من السادسة من العمر؛ مدارس أولية عليا، كليات، وقد أنشئ الليسيه الأول في جالاتا سراي عام 1868م، وكان يجري تدريس الفرنسية فيه، وأصبح بؤرة لتفريغ مثقفين وموظفين، وسرعان ما جرى التصريح بإنشاء مدارس وكليات أجنبية (فرنسية في غالبيتها وتدار من جانب رهبانيات كاثوليكية)، وكان يتردد عليها في آن واحد أفراد من الأقليات وأتراك من الأسر الميسورة الحال، وقد أتيح للبنات، لأول مرة، الحصول على تعليم حديث على النمط الأوروبي(7).
وكذلك أيضاً حدث في عهد السلطان عبدالمجيد (1839 – 1861م) الذي عرف بتبنيه الكامل لمشروع التغريب؛ حيث تحولت في عهده مؤسسات الثقافة التركية إلى مؤسسات تبشر بالمشروع المعرفي الغربي، وتأسست في عهده في إسطنبول أول جامعة حديثة؛ حيث يحذو تعليم العلوم حذواً أوروبياً، كما أمر بإنشاء أكاديمية العلوم العثمانية (أنجومين – أي دانيش) عام 1850م.
ومن أبرز رموز التغريب ودعاته في تركيا رشيد باشا (1800 – 1858م)، إبراهيم شناسي (1826 – 1871م)، ضيا باشا (1825 – 1880م)، نامق كمال (1840 – 1888م)، مدحت باشا (1822 – 1885م)، عبدالله جودت.
الازدواجية والابتعاث
أما في مصر، فنلاحظ أن الإشكالية المعرفية الكبرى التي واجهت العقل المصري وكانت مصدراً لمعاناته الفكرية تكمن في تلك الازدواجية التي بدأت تتكون مع إيجاد نظامين للتعليم مسؤولين عن تشكيل البنية المعرفية للعقل المصري، هما:
الأول: التعليم المدني الذي بدأ مع تجربة محمد علي، الذي يقوم على اتباع النمط الغربي.
الثاني: التعليم الديني الذي أصبح بجموده وانسداد روافد الاجتهاد فيه وفشل محاولات إصلاحه؛ يشكل عبئاً وليس حلاً للواقع الراهن.
وفي ضوء ذلك «بدأت مصر تعرف ذلك الازدواج الخطير بين نمطين من الثقافة؛ ثقافة دينية تقليدية جامدة، وثقافة علمية غربية متجددة، وكان لهذا أسوأ الآثار والشرور التي عانت منها مصر؛ فقد فتتت من وحدة الفكر بين أبناء المجتمع، وخلقت أخدوداً ثقافياً قلَّ من كانوا يستطيعون عبوره»(8).
ونتيجة لسياسة الابتعاث إلى أوروبا في ضوء غياب التحصين المعرفي من جهة، واستقدام الأوروبيين لاستخدامهم في وضع البرامج الثقافية والتربوية في مصر من جهة أخرى؛ تكونت في مصر بيئة خصبة للتغريب، ظهرت فيها كافة أفكار ودعوات المشروع المعرفي الغربي من الدعوة إلى العلمانية وفصل الدين عن الدولة، وتحرير المرأة والدعوة إلى السفور ومحاربة الحجاب، والتبشير بسيادة الفلسفة المادية، وتبني نظرية دارون في النشوء والارتقاء (شبلي شميل 1850م، وإسماعيل مظهر 1891م، وسلامة موسى 1887م).
بين رجال الدين والمتغربين
أما في إيران (الرافد الثالث للحضارة الإسلامية)، فقد كان للحرب الإيرانية الروسية، وما تبعها من هزيمة للإيرانيين، ومعاهدة «تركمان جاي» (1828م) -التي سنت بموجبها امتيازات كثيرة للأجانب- دور كبير في التوجه نحو النمط الغربي في وسائل الحرب وفنونها، ولم يعد لدى الإيرانيين خيار سوى إعداد جيش على الطراز الحديث، فأنشؤوا مدرسة «دار الفنون» في منتصف القرن التاسع عشر (1851م – 1867 هـ.س) في عهد الدولة القاجارية، ضمت في دورتها الأولى سبعة أقسام، هي: الرياضة والهندسة، والطب والجراحة، والصيدلة، وعلوم المعارف، وثلاثة أقسام أخرى خاصة بـ»علوم العسكرية»(9).
وعلى الرغم من استقدام مدرسين أجانب لهذه العلوم وانتقاء الطلاب من غير المدارس الدينية والتحول الإداري والقانوني الذي شهدته مدرسة «دار الفنون»؛ فإنه لم يعترض أحد من علماء الدين؛ وذلك لرغبتهم في إعداد جيش قوي يتم به مواجهة الروس مرة أخرى، إلا أنه لم يتم التعايش مع مدرسة «دار الفنون» من قبل رجال الدين إلا لفترة محدودة، انتهت ببدء الدورة الثانية لهذه المدرسة (1859م) التي تأسست فيها مجموعة من الأقسام الدراسية الأخرى تهتم بتشكيل القيم، وتتدخل في الثقافة والأخلاق، وهذه الأقسام هي «المسرح والتمثيل»، «النحت والتصوير»، «الموسيقى».
وفي هذه المرحلة بدأ الصراع بين رجال الدين كمدافعين عن التعليم التقليدي (الديني) وما يحمله من قيم وخصائص، وفئة «المتغربين» الذين درسوا في أوروبا هذه العلوم الجديدة وعادوا لتدريسها في مدرسة دار الفنون وما تبعها من مدارس أخرى على النمط الغربي ذاته؛ فبعد نصف قرن تم إنشاء عدد من المدارس المشابهة، فأنشئت مدرسة الحقوق والعلوم السياسية عام 1899م، كانت مدة الدراسة فيها 4 سنوات، وتنتمي إلى التعليم العالي، ثم أنشئت في عام 1908م مدرسة الطب، ومدة الدراسة فيها 5 سنوات، كما أنشئت المدرسة العالية للزراعة والحرف المهنية عام 1922م، ومدرسة المهندسين عام 1926م، والمدرسة البيطرية عام 1932م.
ويعتبر الإيرانيون أن افتتاح «دار الفنون» واستقدام معلمين ومناهج ودراسات غربية كان من العوامل المؤثرة والفعالة في انتشار وترويج الفكر الغربي بإيران، لا سيما فيما يتصل بمنظومة القيم والثقافة، وقد وصل عدد الخريجين خلال 4 سنوات 1100 طالب، وكان أغلبهم من أسر معروفة وذات نفوذ كبير، وشغل معظمهم مناصب عليا في الدولة، وكانوا في نفس الوقت يسعون لنشر الثقافة الغربية(10).
وفي هذه الأثناء ظهر جيل جديد من المثقفين الإيرانيين الذين تبنوا الفكر الغربي، وتمثلوا أفكاره لا سيما ما يتعلق بالنظرة إلى الدين ومهامه ووظائفه في حياة الإنسان، لدرجة وصلت إلى معاداة الدين باعتباره أساس التخلف، كما فعل التنويريون الغربيون مع الدين المسيحي؛ فقد «تأثر الجيل الأول من تيار التنوير الإيراني بروحية معاداة الدين والمؤسسة الدينية التي كانت سائدة في أوروبا، ومن هنا اتخذ هؤلاء موقفاً معادياً من الدين، وتوجهوا نحو الأصول القومية، فقفزوا إلى الوراء ليتجاوزوا الإسلام بوصفه مرحلة تاريخية دخيلة من عمر إيران والإيرانيين، ويعودوا إلى تاريخ الأجداد الساسانيين»(11).
وقد ارتبطت المؤسسات التعليمية الحديثة، ومصطلح المستنيرين بمن يروجون للفكر الغربي وباستعداء الدين واستبعاده من حركة النهضة الإيرانية، ومن ذلك ما كتبه جلال أحمد عن هذه الحالة فيما أسماه «درخمت وخيانة روشنفكران» (المستنيرون خدمة وخيانة)، والمصطلح يشير بوضوح إلى هؤلاء الذين يميلون للغرب ويرجحون أفكاره وينقلونها.
_________________________________________________________________________
(1) إسماعيل أحمد ياغى: الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي الحديث، الرياض، مكتبة العبيكان، 1996، ص149.
(2) جوستين ماكارثي: «سياسات الإصلاح العثماني»، ترجمة: عبداللطيف الحارث، مجلة الاجتهاد، العدد 45-46، بيروت، 2000، ص 64.
(3) المرجع نفسه، ص 75.
(4) رءوف عباس: «الإصلاح العثماني الدوافع والأبعاد»، بيروت، مجلة حوار العرب، العدد الرابع، مارس 2005، ص48.
(5) ماجدة مخلوف: «الإصلاح والتجديد في تركيا»، مرجع سابق، ص20.
(6) المرجع نفسه، ص22.
(7) روبير مانتران (إشراف): مرجع سابق، 463.
(8) سعيد إسماعيل علي: تاريخ التربية والتعليم في مصر، القاهرة، عالم الكتب، 1985، ص337.
(9) مهدى إشراقي: دار الفنون گفتارى درهويت دار الفنون وجايگاه در تاريخ معاصر إيران (مكانة وتاريخ مدرسة دار الفنون في الهوية الإيرانية)، طهران، مركز التعليم والتربية 2004م، ص27.
(10) المرجع نفسه، ص53.
(11) انظر:
– نهاوندي هوشنگ وديگران: أمير كبير ودار الفنون، طهران، المكتبة المركزية، 1999.
– محمد شفيعي فر: الأسس الفكرية للثورة الإسلامية، ترجمة: محمد حسن زراقط، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2007، ص 112.