إنها لحظة العصيان والتمرد على الله تعالى يوم أعلن إبليس في صفاقة فضلاً مزعوماً له أنه خير من آدم عليه السلام، وبالتالي فلن ينصاع لأمر الله بالسجود؛ فكانت بذرة العنصرية الأولى في الأرض، ومع تَقلُّب الأزمان والعصور تتجلى تلك النزعة البغيضة في صور متعددة، إلى أن جاء الإسلام والناس مراتب وطبقات لا حسب مؤهلاتهم وقدراتهم وطاقاتهم، بل لأن إنساناً وُلد فقيراً أو أسود فعليه إذاً أن يتجرع مرارة إثم لم يرتكبه، وعاقبة فعل لم يجْنِه.
ورحم الله الإمام أبا الحسن الندوي الذي كتب كتابه المشهور «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟»، وذَكر فيه مظاهر الطبقية في الحضارات والأمم السابقة إلى أن جاء الإسلام فصرخ في أذن الدنيا أن عودوا إلى فطرتكم واستقيموا.
ناهض الإسلام العنصرية وقدَّم حلولاً ونماذج عملية وخططاً ورؤية للقضاء عليها، ما أحوج العالم الآن للاستفادة منها!
وتلكم أهم المحاور التي عمل عليها الإسلام للقضاء على العنصرية، وبناء مجتمع متراحم متعاون متساند.
أولاً: تغيير الفكر وبناء الوعي:
تتكون مشاعر الإنسان ويتحدد سلوكه من خلال تَشَكُّل قناعات معينة وبها يسير ويختار، ومن هنا فقد بنى الإسلام خُطته في القضاء على العنصرية من خلال التغيير الفكري والنفسي في نظرة الإنسان للإنسان:
– ألحَّ كثيراً على أن الناس جميعاً ينحدرون من أصل واحد، وتكرر النداء في القرآن الكريم: «يا بني آدم»، «يا أيها الناس»، وأول سورة في ترتيب المصحف هي «الفاتحة» التي افتتحت بـ»الحمد لله رب العالمين»، وآخر سورة «قل أعوذ برب الناس».
– تثبيت معنى الأخوة الإنسانية الجامعة، وقد وردت على ألسنة الأنبياء في دعوة أقوامهم، قال تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ) (الأعراف: 65)، وقال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) (هود: 61)، وهكذا دَرَج الخطاب النبوي مع الناس، لا فوقية ولا طبقية ولا علو في الأرض.
– التأكيد على أن التفاضل بين الناس في الدنيا لا يكون إلا لِما يبذلون من جهد نفسي وخلقي وروحي وعملي يفيد الناس، ولا دخل للجنس أو اللون أو العرق في إنزال الناس منازلهم.
– التعارف مقصد الاختلاف في الخلق كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
لذلك انفتح المسلمون الأوائل على تراث الأمم السابقة وانتفعوا به وحافظوا عليه، وكانوا الناقل المعرفي الثقافي للتراث اليوناني في العصر الذهبي للخلافة العباسية، وأثناء فترة العطاء الحضاري الواسع للمسلمين في الأندلس، ومن هذه الرؤية احترم المسلمون عند فتح البلاد العادات والتقاليد والتراث الذي هو جزء من تاريخ الأمم؛ فلم يؤْثَر أن قام المسلمون بمحو اللغات واللهجات والعادات كما فعلت بعض الدول الاستعمارية الحديثة في البلاد التي اغتصبتها ونهبت ثرواتها.
ثانياً: إقرار الحقوق وتطبيقها:
لم يكتف الإسلام بالحديث عن المساواة والأخوة الجامعة، بل وضع القوانين والتشريعات التي تصون الكرامة الإنسانية وتحفظ حقوق الضعفاء، فأوجب الزكاة رعاية لحق الفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات، ووصى باليتيم حتى لا يشعر بالحرمان والجور، وأكرم منزلة المرأة ورفع شأنها ورد كرامتها، ويوم جاء أرسى خطة لتجفيف منابع الرق، من خلال تغيير النظرة له، وحسن معاملته والانتفاع به ورعاية حقوقه، وفتح الباب أمام التحرير والترغيب فيه وجعل كفارات كثيرة منطلقاً لعتق العبيد، حتى أُثر عن ابن عمر أنه كان يعتق العبيد الذين يصلّون؛ فكان أحدهم يتظاهر بالصلاة حتى ينال حريته، ولما قيل له: إنهم يخدعونك فقال: من خدعنا في الله انخدعنا له.
وقد زوَّج النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة -ولم يكن ذا نسب- من السيدة زينب بنت جحش سليلة الحسب والنسب، ثم نسبه لنفسه وتبناه ليعلن مرحلة جديدة في معاملة الإنسان، ولم تمنعه عبودية الأمس أن يكون قائد جيش المسلمين في غزوة مؤتة، كما لم تمنع حداثة سن ولده أسامة أن يتولى بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيادة الجيش وفيه كبار الصحابة.
وها هو بلال بن رباح رضي الله عنه يحتل أرفع المنازل في قلوب الصحابة وقلوب الأمة.
وقد فصَّل القول في قضية منهج الإسلام في تحريم الرقيق الأستاذ محمد قطب في كتابه «شبهات حول الإسلام»، فليرجع إليه من شاء.
ثالثاً: حماية حقوق الإنسان:
لا يكفي أن تُعلَن الحقوق، بل يجب أن تكون هناك جهات تقوم على حراستها وتنفيذها ومراقبة أي خروقات ممكنة.
ولعل أقدم دستور ظهر في العالم وهو وثيقة المدينة المنورة التي صنعت مجتمعاً واحداً، الكل فيه سواء، قام على أساس المواطنة، الوحدة في إطار التنوع وضمنت الوثيقة لغير المسلمين أن يعيشوا بسلام وأمن مع إخوانهم المسلمين.
وحين تعرَّض يهودي لاتهام ظالم بالسرقة نزل القرآن ليعلن براءته ويرفض موالاة الخائنين، قال جلَّ شأنه: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) (النساء: 105).
ورفَضَ كل أشكال التمييز بين الناس، كما بينت سورة «الحجرات»؛ فلا مكان لسخرية أو طعن ولا همز ولا لمز، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11).
ويوم سبَّ أبو ذر الغفاري بلالاً وعيَّره بأمه قائلاً: يا ابن السوداء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم غاضباً: «ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل».
ثم هو المُعلِن صلى الله عليه وسلم على مشهد من العالم الدعوة إلى السلام العالمي في حجة الوداع أنَّ الناس كلهم إخوة، وأن ربهم واحد وأباهم واحد؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى» (رواه أحمد، والبيهقي).
أمَّا بعد.. فالعنصرية تتجدد
نعم، عانى العالم ولا يزال يعاني في العصر الحديث من العنصرية، وعلى ضفاف أحد الأنهار في المدينة البريطانية بريستول قام المحتجون بإنزال تمثال تاجر العبيد البريطاني «إدوارد كولستون» وإلقائه في النهر، وسط مظاهرات عالمية حاشدة على إثر مقتل الشاب الأمريكي الذي يعود إلى أصول أفريقية «جورج فلوريد» خنقاً تحت أقدام الشرطة الأمريكية في مشهد وحشي؛ ليذكرنا بحقبة الاستعباد يوم سِيق إلى عمارة الأراضي الجديدة في الأمريكيتين مئات الآلاف من السود دون أدنى حقوق، وبيعوا كما تباع الأنعام.
ولم يسدل القرن العشرون الستار إلا على رحلة معاناة واضطهاد حول العالم لأقليات تم سحقها، فما زال السود في أمريكا يعانون التمييز، وذهبت الملايين في رواندا ضحايا العنف، وقدم نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أسوأ نظام للتمييز بين الناس.
والآن يعاني المسلمون في الغرب من ظاهرة الكراهية والاعتداءات المتكررة، ويوم كتابة هذا المقال (يوم فاتح يوليو الماضي) هو الذكرى الحادية عشرة لمقتل د. مروة الشربيني (مصرية) طعناً في قاعة محكمة مدينة دريسدن شرقي ألمانيا على يد متطرف عنصري لتذكرنا بالاضطهاد والاعتداءات المتكررة على المسلمين ومساجدهم وسط ردود فعل سياسية وقانونية وإعلامية دون المستوى المأمول.
لقد سجل مكتب التمييز 1200 حالة اعتداء عنصري في عام 2019م بنسبة زيادة 10% عن العام الذي سبقه؛ ما يعني أن المستقبل سيشهد مزيداً من العنف والكراهية ضد المسلمين ما لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة لوقف الاعتداءات وتجفيف منابعها.
وشهد يوم 19 فبراير 2020م حدثاً إرهابياً عنصرياً دامياً، حينما قتل أحد المتطرفين تسعة من الشباب المسلمين على أحد المقاهي في مدينة هاناو الألمانية.
وقد أحدث صدمة هائلة عند الرأي العام، ووضع ألمانيا أمام تحديات صعبة، كما ألقى بظلال كئيبة وأسئلة مفتوحة عن مستقبل المسلمين في البلاد، وحقوقهم كمواطنين لا يشعرون بالأمان والسلام، ووسط رفض رسمي وشعبي كبير للمذبحة تجلى في مظاهرات شعبية واسعة النطاق على الساحة الألمانية، أعلنت عن رفضها للعنصرية والاعتداء على المسلمين وإدانتها لليمين المتطرف.
مَن يُشعل النار؟
من يطالع الواقع سيرى أن هناك أسباباً وقوى غير خافية وراء هذه العنصرية المتزايدة، منها:
1- قوى اليمين المتطرف ومن يدور في فلكها:
لا تفتأ أحزاب اليمين المتطرف إحراق المجتمع بدعاوى العنصرية والإعلان عن كراهية المسلمين والأجانب، ولا يدعون أزمة تمر إلا امتطوا صهوتها بالشحن المعنوي ضد الأجانب عامة والمسلمين، وقد حاز خطابهم على قبول من قطاع بالشارع الألماني تجلى في صناديق الانتخابات، وغدا حزب البديل ثالث قوة في البرلمان الألماني.
وحينما وجدت بعض الأحزاب المعتدلة سابقاً ذلك، قامت هي كذلك بالمزايدة في خطاب الكراهية والشحن طمعاً في كعكة الأصوات، ثم لتذهب المبادئ إلى الجحيم!
2- بعض الأجهزة الإعلامية:
إذا أردت أن تعرف الانحياز السافر فتتبع تغطية وتحليل وسائل الإعلام لحدث إرهابي يكون المتهم فيه مسلماً، ثم قارن بعد ذلك إن كان الفاعل في حدث آخر غير مسلم.
في مارس 2015م، تحطمت الطائرة الألمانية القادمة من برشلونة إلى دوسلدورف وعلى متنها 150 راكباً فوق جبال الألب لقوا حتفهم فوراً، وأظهرت تحقيقات المدعي العام الفرنسي أن مساعد الطيار (28 عاماً) ألماني الجنسية تعمد تدمير الطائرة.
الشاهد في الأمر أن جميع التصريحات الرسمية الألمانية والفرنسية نفت أن تكون هناك دوافع إرهابية، أو أيديولوجية، وصمت الإعلام ولم يُقلب أوراق الجاني ليقف على دوافعه الإرهابية! ولو كان الفاعل أجنبياً لوجدتَ التقارير الوافية عن أصوله المهاجرة، أو تديُّنه، أو غير ذلك من الدوافع الإرهابية الشيطانية خلف هذا الجنون.
لقد سارعت هيئة حماية الجريمة الألمانية في حادثة هاناو بالقول: إن الحادث لا يحمل بصمات عنصرية؛ الأمر الذي دعا المدعي العام الألماني أن يعلن أنه حادث إرهابي عنصري، وكان تصريح وزير الداخلية في الولاية قريباً منه، وصرَّح رئيس الجمهورية الألماني «شتاين ماير»، والمستشارة «ميركل» بأنه حادث إرهابي.
3- بعض الأجهزة الأمنية:
ما زالت بعض أجهزة الأمن تتعامل بعنصرية مع المهاجرين ومن ينحدرون من أصول أجنبية، وهناك أجهزة رفيعة المستوى انحرفت عن هدفها وتحيزت لليمين المتطرف، إنه يمارس الشحن العنصري من خلال تقاريره التي يشيطن فيها فئات ومؤسسات من المسلمين، ويتهمهم بالتطرف ومعاداة قيم المجتمع ومناهضة الدستور دون دليل أو بيّنة؛ الأمر الذي يعزز مكانة دعاة الكراهية ويحرم المجتمع من كفاءات وطاقات عظيمة.
لذلك يعتبره كثير من المراقبين شريكاً في حالات الاعتداء على المسلمين، وفي المظاهرات العارمة التي اشتعلت في المدن الألمانية تضامناً مع ضحايا الاعتداء الإرهابي الذي وقع في هاناو سمعتُ كثيراً من المتحدثين والمسؤولين في أحزاب وقوى مجتمع مدني يلقون باللائمة على جهاز المخابرات الداخلية.
كيف نكافح العنصرية؟
إن العنصرية داء خطير على مستقبل الإنسانية كلها، ومن هنا وجب أن تتضافر الجهود الرسمية والشعبية لمناهضة جميع صور العنصرية، من خلال:
1- سَن وتفعيل القوانين التي تجرّم جميع صور التمييز وتلاحق من يحرض عليها في الوسائل المقروءة أو المسموعة أو المرئية.
2- تأسيس مراكز تابعة للحكومات لمراقبة أداء الشرطة وأجهزة الأمن.
3- تأسيس مراكز لرصد انتهاك حقوق الإنسان والتمييز ضده في العمل أو السكن أو غير ذلك.
4- العناية بالأعمال الفنية والأدبية التي ترسخ معاني الأخوة والتعاون بين الناس جميعاً؛ بالأغنية الهادفة والقصيدة الملهبة والفيلم الجميل نستطيع أن نشيع أرقى المعاني، ونحاصر التيارات التي تزرع الشوك في طريق البشر.
5- إحياء ذكرى ضحايا العنصرية حول العالم، والاعتذار عن حقبة الاستعمار السابقة للدول التي نهبت ثروات الشعوب، واستعبدت الملايين منهم، وطي هذه الصفحة الحزينة.
6- إبراز الفترات التاريخية المهمة التي عمَّ فيها السلام والتعاون بين الشرق والغرب، والعناية بالمؤلفات في هذا الشأن.