الفساد آفة العصر، وإذا كانت الأمم المتحدة اتخذت من التاسع من ديسمبر يوماً دولياً لمكافحة الفساد، وعرفت الفساد بأنه: «سوء استعمال السلطة العامة لتحقيق مكسب خاص»، فإن الإسلام ونظامه الاقتصادي حارب الفساد على مدار الوقت، وجعله آفة ومعرة ومهلكاً للأمم، فالفساد نقيض الإصلاح، ومن خلاله تضيع الحقوق وتُنتهك المصالح وتقتل الروح المعنوية تقتيلاً.
أشار القرآن الكريم إلى الفساد كسلوك شائن بغيض ومصيره مهلك مهين في العديد من آياته، منها قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) (البقرة)، (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (البقرة: 27)، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة).
وقد قال الله تعالى في حق فرعون: (إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 4)، وفي حق قارون: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص: 77)، وعن طغاة قوم ثمود ورؤوسهم: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) (النمل: 48)، وعن قوم شعيب: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ {84} وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (هود)، وعن اليهود: (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة: 64).
وبيَّن عز وجل أن الفساد نتيجة طبيعية للطغيان والاستبداد، وهو يصل بصاحبه في نهاية المطاف إلى النهاية المحتومة من هلاك ودمار وعذاب؛ (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ {6} إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ {7} الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ {8} وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ {9} وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ {13} إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) (الفجر).
مضار الفساد:
يمكن إبراز أهم مضار الفساد فيما يلي:
1- الفساد يمثل سرقة لثروات الأمة؛ فهو يسرق من المواطنين قدراتهم الكامنة كما يسرق منهم طموحاتهم وتطلعاتهم نحو مستقبل أفضل وتعليم أحسن ورعاية صحية أشمل وقدرة أكبر على الحصول على المسكن والطعام والمياه وغيرها من ضروريات الحياة.
2- الفساد يؤدي إلى إهدار سيادة القانون، والتشكيك في فعاليته وفي قيم الثقة والأمانة، إلى جانب تهديده للمصلحة العامة من خلال إسهامه في خلق نسق قيمي تعكسه مجموعة من العناصر الفاسدة أو ما يسمى «Public bads”؛ وهو ما يؤدي إلى ترسيخ مجموعة من السلوكيات السلبية في المجتمع؛ ومن ثم انتشار الجريمة وتهديد الاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني، وسيادة الشعور بالاغتراب لدى المواطن العادي، وبأن القانون لا يطبق سوى على الفقراء ومن ثم انهيار منظومة القيم الأخلاقية.
3- الفساد يعوق عمليات التنمية ويضعف النمو الاقتصادي؛ حيث يؤثر على استقرار وملاءة مناخ الاستثمار، ويزيد من تكلفة المشروعات ويهدد نقل التقنية، ويضعف الأثر الإيجابي لحوافز الاستثمار بالنسبة للمشروعات المحلية والأجنبية؛ ومن ثم تطفيش رأس المال سواء أكان محلياً أم أجنبياً، ويؤثر على روح المبادرة والابتكار ويضعف الجهود لإقامة مشروعات استثمارية جديدة.
4- الفساد يؤثر على كل من العدالة التوزيعية والفعالية الاقتصادية، ويحول دون التخصيص الأمثل للموارد، نظراً لارتباطه بإعادة توزيع أو تخصيص بعض السلع والخدمات، حيث يسهم الفساد في إعادة تخصيص الثروات لصالح الأكثر قوة، لا سيما في حالة زواج السلطة بالمال، وقد تعرض ابن خلدون لذلك في مقدمته بتناوله “الجاه المفيد للمال”.
5- الفساد يعمل ضد الشورى والعدالة؛ لأنه يزيد من سلطة ونفوذ الأثرياء ويوجه قرارات نظام الحكم وفقاً لمصالح المفسدين، ويوسع الفجوة بين الطبقات، ويؤذي الشريحة الفقيرة من المجتمع ويزيدها فقراً، ويزيد من البطالة ونسبة المهمشين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
6- الفساد يؤدي إلى إضعاف جودة البنية الأساسية والخدمات العامة، ويدفع ذوي النفوس الضعيفة للسعي إلى الربح غير المشروع عن طريق الرشى والإيرادات الريعية بدلاً من المشاركة في الأنشطة الإنتاجية، ويحد من قدرة الدولة على زيادة الإيرادات، ويفضي إلى معدلات ضريبية متزايدة تجبى من عدد متناقص من دافعي الضرائب، ويزيد من الأموال المحولة للخارج لغسلها؛ وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى زيادة العجز في ميزان مدفوعات الدولة ومن ثم عجزها عن توفير الخدمات العامة الأساسية.
7- الفساد يقوم بتغيير تركيبة عناصر الإنفاق الحكومي، إذ يبدد أصحاب الثروة والسلطة موارد عامة أكثر على البنود التي يسهل ابتزاز رشى كبيرة منها مع الاحتفاظ بسريتها، ويلاحظ أن الأجهزة الحكومية التي ينتشر فيها الفساد تنفق أقل على الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، وتتجه إلى الإنفاق بشكل أكبر على مجالات الاستثمار المفتوحة للرشوة وغسل الأموال.
علاج الفساد:
علاج الفساد يتطلب إلى من يقف أمامه ويزيله من جذوره، فلا إصلاح مع فساد، فهما نقيضان لا يجتمعان، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أهمية مقاومة الفساد وعدم الركون إليه وعدم اليأس من الإصلاح، فقال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ {116} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود)، وشاء الحق سبحانه أن يجعل أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم خير الأمم بشرط أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 110)، ومن أهم أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قطع دابر الفساد وإعلان الحرب على المفسدين، من خلال ما يلي:
1- وجود شورى وعدالة حقيقية يشعر من خلالها المواطن بكرامته والقدرة على التغيير، ويشعر الجميع أنهم متساوون أمام القانون، وأنه لا يوجد شخص فوق القانون؛ «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يديها»، والتأكيد على استقلالية القضاء وفاعليته، والفصل بين السلطات، واحترام حقوق الإنسان المدنية والسياسية، ومنح مؤسسات المجتمع المدني حريات الرأي والتعبير والاجتماع.
2- إرساء مبادئ النزاهة والشفافية والإفصاح والحوكمة في جميع العمليات الحكومية، وإرساء مبدأ المساءلة قيداً على سلوك القائمين على شؤون السلطة، وإصلاح الجهاز الإداري وتحقيق الكفاية المعنوية والمادية له، ببناء كادر حكومي يتقاضى أجوراً جيدة، مع الاعتماد في التعيين والترقي على الكفاءة لا الولاء، ووضع بنية تشريعية -كماً وكيفاً- لمكافحة الفساد وتفعيل تنفيذها.
3- تكاتف قوى المجتمع المدني والقطاع الخاص والدولة في جهود مكافحة الفساد، وإتاحة الفرصة لوسائل الإعلام المسؤول والصوت الحر المسموع في مكافحة الفساد، مع بذل الجهود المكثفة لتحسين الاقتصاد ورفع مستويات المعيشة وتعزيز بيئة الأعمال التجارية.
4- تفعيل القيم الإيمانية والخلقية وإرشاد وتربية الأفراد على حرمة المال العام، فذلك أقرب الوسائل لمنع الفساد؛ لأن الوازع النفسي أقوى وأعم من الوازع الخارجي، وإن كان لا بد من الجمع بينهما.
5- ترسيخ مبدأ من أين لك هذا؟ وتطبيق العقوبة الشرعية الرادعة للقضاء على الفساد والمفسدين جزاء نكالاً لفسادهم وجشعهم في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
6- ترسيخ مفهوم الإدارة بالقدوة التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيَّنها القرآن الكريم في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21)، وسار على نهجه خلفاؤه الراشدون من بعده حتى قال علي بن أبي طالب، لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما قولته المشهورة: «عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا»، كما أن لنا عبرة حسنة في عمر بن عبدالعزير وحربه على الفساد، حتى إنه في نحو ثلاثين شهراً فاض بيت مال المسلمين بالأموال، وعجز أن يجد فقيراً محتاجاً.